دراسة المطيري: القانون العصا المستقيمة للعدالة

نشر في 23-11-2008 | 00:00
آخر تحديث 23-11-2008 | 00:00
No Image Caption
تنشر الجريدة دراسة للمحامي أنور المطيري بعنوان «مبادئ القانون وتحقيق العدالة» وفي ما يلي نعرض الجزء الأول من هذه الدراسة.

القانون قديم قدم التجمع البشري، إذ دعت الضرورة إلى وجوده بعد أن سادت شرعية الغاب في المجتمعات البدائية، وكان البقاء للأقوى، فالإنسان ميال بطبعه إلى الشر فلولا تطبعه بالخير عن طريق اكتساب صفته الاجتماعية لصار حيواناً لا يتعامل إلا على أساس قانون الغابة.

لكن الصفة الاجتماعية للإنسان تفرض عليه أن يكبح جماح أنانيته، وتضبط سلوكه وترشده إلى الطريق القويم، فمنذ أن وجد الإنسان في مجتمع يضم غيره من أقرانه وهو ينشد العدل في ما ينشأ بينه وبين غيره من علاقات، ومعاملات لذلك ليس غريباً أن تلازم فكرة العدل والإنصاف فكرة القانون منذ أن وجد، لذلك ففكرة العدل تتوج قمة الهرم القانوني على الدوام وليس غريباً كذلك أن تستحوذ فكرة العدالة على اهتمام الفلاسفة منذ أقدم العصور، فالقانون يسعى إلى تحقيق العدالة بين الناس وتحقيق دولة القانون، بحيث لا يكون هناك محاباة لأشخاص أو طائفة على أخرى، وبذلك تتحقق المساواة بين الناس في الأعباء والمزايا.

والأسئلة التي تطرح هي:

• ما هو مفهوم القانون ومفهوم العدالة، وهل ثمة جسور للتواصل بينه وبين مفهوم العدالة؟ وكيف تتحقق هذه الأخيرة من خلاله؟

• وهل يساعد المفهومان في تحقيق دولة القانون والعلاقة الجلدية بين مبادئ القانون ومبدأ العدالة؟

ونبدأ بتعريف الأول ماهية القانون ومبادئه.

القانون لغة مقياس كل شيء أو الخط الذي بين الاستقامة والانحراف وتطلق أيضا على العصا المستقيمة، وتستعمل كلمة قانون مجازاً لتفيد معنى القاعدة والقدرة والمبدأ، ولم يقع التركيز عند اليونان على مصطلح العصا وإنما على دلالة الاستقامة لذلك نجد اللغات اللاتينية والجرمانية تعبر عن القانون بكلمة «المستقيم بالفرنسية DROIT، بالإيطالية DIRITTO، والإسبانية DERECHO، وبالألمانية RECHt كل هذه المصطلحات مشتقة من RECTUS اللاتينية أي المستقيم».

القانون ضرورة تفرضها الحياة في المجتمع، لذلك فالإنسان كائن اجتماعي لا يستطيع العيش بمعزل عن الجماعة، لأنه لا يمكن أن تستقيم حياة الفرد منعزلا ووحيداً عن بقية الأفراد الآخرين لأنه، فبذلك يفتقد إنسانيته لذلك فالقانون ضرورة حيوية لاستقرار واستمرار حياة الأفراد داخل الجماعة تحقيقاً للعدل والسير بالمجتمع نحو التقدم والازدهار، وبفضله تنظم العلاقات الاجتماعية وفقاً لقواعد محددة تستتبع بالضرورة احترام الأفراد لها وتوقيع الجزاء على من يخالفها.

كما نرى، فإن القاعدة القانونية هي وحدة يتكون منها القانون أو النظام القانوني لكن هذا التعريف غير حاسم، لذلك يجد رجال القانون صعوبة بالغة تعترض من يحاول وضع تعريف لهذه الظاهرة شأنه في ذلك شأن كافة الظواهر غير الملموسة، بالإضافة إلى أن القانون تتعدد مظاهره وتتشعب الآراء بالنسبة الى الأساس الذي يقوم عليه، والهدف الذي يرمي إلى تحقيقه فقد يحرص المعرف على بيان الغرض الذي يسعى إليه القانون، وقد لا يحرص آخر على ذلك، بينما يرى جانب من الفقه ان الغرض من القانون هو تنظيم علاقات الأفراد داخل الجماعة.

لذلك نجد القاضي إذا لم يجد نصاً تشريعياً يقضي به في النزاع المطروح أمامه وجب عليه أن يبحث عن قاعدة عرفية، فإن لم يجد يستعن بمبادئ الشريعة الإسلامية، وإذا لم يجد فلا يجوز له النكول عن القضاء بدعوى عدم وجود قاعدة قانونية لأنه «القاضي» لا يمكنه أن يتخلى عن مهمته بحجة غياب القواعد القانونية، أو غموضها والا اعتبر منكرا للعدالة، فالقاضي يتعين عليه الرجوع إلى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة لكي يستلهم الحكم الواجب التطبيق، وكل ما يهمنا في هذه الظاهرة هو اعتبار القانون من مقومات الدولة والأسس التي تبنى عليها، ويكفل لها الاستمرار، كما أن للقانون علاقة بالأخلاق إذ يتداخل في عديد من القواعد القانونية ما هو قانوني بما هو أخلاقي، فمثلاً قاعدة الالتزام بعدم الاضرار بالغير، وبعدم القتل، أو السرقة وقاعدة وفاء الدين هي بطبيعتها قواعد قانونية، وقواعد أخلاقية على حد سواء، وهي قواعد مازالت حتى يومنا هذا وستظل باستمرار الموجه الأساسي لتنظيم السلوك الإنساني في نطاق المجتمع.

لذلك، فالقاعدة عندما يضعها المشرع تكون نتيجة أزمة رغم أن الوثيقة الدستورية لم تحدد جميع المجالات، بل تركت المجال مفتوحاً للمستجدات والتطورات، فالدولة تضع من القانون لتراقب المجتمع في السابق أما الآن نجد أن المجتمع بدوره يراقب الدولة، هذا من جهة ومن جهة أخرى فالقانون ضرورة نفسية لكون الفرد يشعر بضرورة الالتزام في السلوك، إما أخلاقياً أو مبدئياً، وإما اتعاظاً بالعقوبات التي تلحق غيره ممن يقدمون على خرق القانون، فإنه سيشعر مع ذلك أن في هذه الحراسة وفي هذا العقاب حماية له، وضماناً لاستقراره داخل المجتمع وفي هذا الصدد يقارن أحد الأسلاف «القوانين بخيوط العنكبوت التي لا تتوافر سوى على قدرة القبض على ذباب، في حين تخترقها الطيور».

لذلك فالقانون الذي يصدر عن البرلمان كنصوص نجدها لا تفعّل كلها، ويتم تجاهل العديد منها، فمثلاً قانون عدم تدخين السجائر متجاوز ويعرفه الكل، لكن لا أحد يحرك ساكنا تجاهه... وغيرها فليس سهلاً أن نقول مثلاً إن هذا القانون عادل حين يطبق وينصف الظالم والمظلوم، فالأول يأخذ حقه والثاني يتعظ ويستقيم.

إذاً فإن القانون يسير مع مستجدات الواقع المعيشي، ويشكل هذا الواقع لأنه بمعزل من هذه المستجدات المحيطة به، وإذا انفصمت هذه العلاقة نكون قد دخلنا مجال الإمكانيات المعرفية بدون حلها ليبقى القانون والواقع كل في فلك يسبحون، لذا فالنص القانوني أعماله خير من إهماله، وفن صناعة القانون خير من نداءات واحتياجات الواقع لأنها تلبي غاية المجتمع قبل جلو صوته، ومن هنا يتبين أن وظيفة القانون تنحصر في تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن ما يجب أن يفهم هو أن مفهوم العدالة ذاته يطرح عدة إشكالات تخص الجانب التصوري لهذا المفهوم أو هوية الفرد على المجتمع أم العكس، وهذا هو موضوع المحور التالي.

وتنحصر وظيفة القانون في تحقيق العدالة الاجتماعية، ومفهوم العدل ذاته يطرح عدة مشاكل تخص التصور الموحد له، لذلك نجد أن هذا المفهوم مرتبط بمفاهيم أخرى كالحق، والحرية والمساواة، ولهذا يتبادر إلى الذهن التساؤل حول أهمية العدالة وحضورها في المجتمع إذا انصرف كل واحد إلى ما هو مؤهل له بطبعه.

لذا يقتضي مبدأ العدالة عدم محاسبة الناس على أفعال وتصرفات قاموا بها في ظل قانون سابق، إذ لا يعقل أن يأتي قانون جديد يحاسب الناس على ما أسلفوا من أفعال، فذلك يعد من قبيل إنزال العقاب بمن أطاع النص القانوني القديم، فعنصر الإلزام لابد أن يواكب النص القانوني، حتى يحقق العدالة وبغياب هذا الإلزام لا يتأتى تحقيق العدالة.

وبذلك يتضح لنا من خلال النصوص القانونية أن التحمل مبني على القدرة والاستطاعة لذا نجد هنا غياب المساواة التي ينتج عنها في هذه الحالة اللاعدالة، هنا نجد روح بعض النصوص تخاطب فئة المواطنة فكل مواطن يساهم بقدر استطاعته بوازع المواطنة والانتماء اللذين يفرضان على الإنسان أن يتحمل ويساهم كموطن في التكاليف العمومية.

فعلى الفرد أن يضحي بجزء من حريته، وبجزء من ثروته خدمة للصالح العام، فالناس متساوون أمام القانون لذلك يجب أن يتمتعوا بحقوق سياسية ومدنية واحدة.

ان العدالة لا تتحقق إلا في مرتع خصب وهو المصطلح عليه بدولة الحق، والقانون دولة تبنى فيها المؤسسات على المشروعية واحترام إرادة الأمة في الاختيار، ويعيش فيها القانون ويحيا، وتموت فيها الأنانية النزعة الفردية لذلك، فالباحث عن العدالة ينبغي قبل كل شيء أن يكون مؤمناً بها، فهي كسائر الأمور المقدسة لا تزيل الخمار عن محاسن وجهها المشرق إلا للمؤمن بها.

back to top