أميركا وحُسَّادها

نشر في 18-02-2009
آخر تحديث 18-02-2009 | 00:00
 بلال خبيز تسيبي ليفني لم تفز، ونتنياهو سيحكم من دون قدرة على الحكم، وحزب العمل المؤسس لدولة إسرائيل أصبح حزب الأقلية. يقولون إسرائيل في المأزق. ما هو المأزق؟ ليفي جدعون محلل هآرتس اليساري، يحدد مأزق إسرائيل في أنها تدير كل سياساتها بجيشها. ما العمل حيال التهديد الذي قد ينجم عن امتلاك إيران قنبلة نووية؟ يقوم الجيش بقصفها، وماذا لو عادت بعد إيران بعد بضع سنوات إلى التسلح؟ يقوم الجيش أيضاً بقصفها. دولة مازالت تبحث عن هويتها في المنطقة، ومازالت لما تكتسب بعد اعتراف المحيط بشرعيتها، لا تحسن أن تفاوض بغير السيف. إنها دولة في المأزق.

لكن هذا المأزق الذي تعيشه إسرائيل ليس هو المأزق الحقيقي، فهي لا تجد زعيمها وقائدها المعاصر. السيد حسن نصرالله قال عن شارون الذي مازال في الغيبوبة: هذا آخر ملوك إسرائيل. الوصف صحيح حتى الساعة، فإسرائيل ودعت آخر ملوكها في غيبوبة الموت السريري، لكنها لم تنجح في تنصيب ملك جديد. على نحو ما، مازال جميع من في إسرائيل يحكمون من أرشيف شارون. ما العمل حيال التهديدات؟ نضرب بيد من حديد، ثم ماذا؟ لا شيء نضرب أيضاً وأيضاً، لكن إدراة أميركية جديدة لا تصفق، وتعرف إسرائيل جيداً أنها لن تصفق، لكل حماقاتها، لن تمول أيضاً حرباً حمقاء أو استخداماً مفرطاً للجيش بسبب ومن دون سبب.

هذه حرب غزة. لم تنتصر «حماس» لكن إسرائيل لم تنتصر أيضاً، الفلسطينيون يقولون إن إسرائيل في حربيها الأخيرتين، في لبنان وغزة، عمدت إلى كي الذاكرة اللبنانية والفلسطينية. كل صاروخ يطلق ضد الأراضي الإسرائيلية يسبب كماً من الآلام يفوق الوصف. وهي آلام تمتد طويلاً: مازال الفلسطينيون في غزة يقيمون في عراء الريح والطقس الماطر. هذه غزة هاشم، حباها الله ببحر ومناخ ساحلي، لكن البرد يقطع العظام حتى على ساحل غزة.

المقاومة باتت تشكو من الصقيع. هي أصلاً لم تنطلق من حسن دراية وتبصر، والأرجح أن مثل هذه المقاومات كانت تبتغي طوال الوقت كرسياً وثيراً وطويلاً تحت شمس أميركا. لقد انتهت مقاومات أميركا الراديكالية منذ أواخر الثمانينات، ومقاومات اليوم، وممانعاته أيضاً، لا تطمح إلى أكثر من التنعم بالشمس الأميركية بشرط أن يفرد لها حيز مريح. وإلا ما الذي يفسر هذه النبرات الخافتة في كل مكان، من طهران إلى دمشق وصولاً إلى ضاحية بيروت الجنوبية؟ إنه هجوم أوباما السلمي، هجوم يقول إن العالم متسع للجميع، وإن الشمس تشرق على كل الناس.

لكن إسرائيل حائرة كيف تضع كرسيها وتستريح، فلا مجال للمقارنة بين ليفني وأوباما. هي حاولت أن توحي بأنها النسخة الإسرائيلية من أوباما، تكبره ببضع سنوات، لكنها أفتى المتنافسين على رئاسة الحكومة، وربما تكون أكثرهم حيوية. لكنها ليست أوباما إسرائيل. الأمر مع أوباما لا يتصل بالفتوة والشباب، بل يتصل بالرؤية إلى العالم، الرؤية التي تأخرت زمناً طويلاً في أميركا. انتظرها العالم أكثر من عهدين طويلين لكن الرئيسين السابقين لم يبادرا إلى تلقف اللحظة التاريخية المناسبة، فمنذ أوائل التسعينيات لم يعد ثمة أعداء لأميركا في العالم. وأميركا جورج بوش وبيل كلينتون لم تقاتل أعداءً، بل قاتلت حاسدين وغاضبين، قاتلت أميركا طوال العقد ونصف العقد الماضيين من كانوا يحسدونها، في الاقتصاد والتعليم والصناعة والتكنولوجيا، وقاتلت أيضاً من كانوا يلومونها على انحيازها لغير مصالحهم، لكنهم في النهاية يتطلبون الدور الأميركي بشدة، بشرط أن يلحظ مصالحهم من دون أن يغمط المصالح الأميركية أو يدفعها إلى الخلف. وعلى هذا كانت حرب غزة في أحد أسبابها عراضة بالدم الفلسطيني أمام أوباما. الطرفان المتورطان في تلك الحرب كانا يريدان تنبيهه إلى أن الجرح في هذه المنطقة حار ونازف ويتطلب العناية الأميركية، والطرفان جربا الوسيلة القديمة نفسها، التي هي من عمر هذا الصراع. طرف يتمسك بحقه في الإيذاء الرمزي، وطرف يتمسك بحقه في الإبادة.

النتيجة: طرفان مهزومان... إسرائيل تفتقد قائدها الذي ينتقل بها من عالم الأمس إلى عالم اليوم، والمقاومة التي تجابهها تفتقد قدرتها في أن تكون معاصرة أصلاً. وعلى نحو ما تكون القنبلة النووية الإيرانية مهراً مناسباً للنفوذ الإيراني في المنطقة، تبدو المقاومة المسلحة ضد إسرائيل كما لو أنها مفرقعات نارية للفت الانتباه الأميركي أيضاً.

إسرائيل تقاد اليوم من أرشيفها، لكنها تعرف أن أزمتها عميقة وبالغة الشدة، أما نحن، فنعيش في قبو أرشيفنا القديم، لكن بعض قادتنا يظنون أن الشمس ليست أثر من كوة في أعلى الجدار.

* كاتب لبناني

back to top