تجويع غزة إلى متى؟!

نشر في 19-09-2008
آخر تحديث 19-09-2008 | 00:00
 يحيى علامو سياسة التجويع أو الضغط الاقتصادي هي بمضمونها سياسة العقاب الجماعي للشعوب التي تمارسها الدول الكبرى عادة- صاحبة حقوق الإنسان- على الدول الصغرى عندما تعجز عن تحقيق هدف ما بالوسائل المختلفة، فتلجأ إلى الحصار والتجويع لمعاقبة الشعوب على اختياراتها- تحت بند معاقبة النظم- التي تكون في الأغلب معاكسة لمصالح الدول الكبرى، وهذه السياسة ليست جديدة علينا، فمصر عبدالناصر تعرضت للحصار والتجويع إبان تأميم القناة وبعد العدوان الثلاثي عام 1956... ومنع عنها القمح والسلاح وكل المساعدات الإنسانية لإسقاط الثورة، ولكن الإرادة الصلبة آنذاك مع الدعم والمساندة العربية والسوفييتية التي كسرت الحصار بالقمح والسلاح أفشلت خطط الإسقاط، بل من سقط آنذاك وأفل نجمه في ما بعد هما القوتان العظميان بريطانيا وفرنسا، وكانت آخر الحروب الاستعمارية لهما بعد ظهور قطبي العالم أميركا والاتحاد السوفييتي وتحول القرار الدولي لهما.

بعد سقوط حلف وارسو قبضت المنظومة الغربية بقيادة أميركا على مصير العالم، وبدأت ترسمه وفق خطوط مصالحها وأولوياتها باستخدام كل الوسائل مهما كانت كارثية لتحقيق أهدافها خصوصا عندما يكون الناتج المطلوب مخالفا لقواعد اللعبة الدولية، ومختلفا عن «المسبق الصنع» كما حدث في الأراضي الفلسطينية عندما صعدت حركة حماس بأغلبية الإرادة الشعبية... مما أزعج وأرّق هذا الناتج إسرائيل وحلفاءها... فكان الحصار والتجويع عقابا على هذا الاختيار .. ولإحداث عاهة بهذا الرحم الذي لم يستجب للعلاجات وأفرز مولودا بمواصفات مختلفة، ولذلك جاء العقاب متناسبا وطبيعة المولود.

اختلاف الزمن لا يمنع إعادة المشهد وإخراجه بتفاصيل مختلفة مع الاحتفاظ بروحية المعنى، وهذا ما نلمسه بواقعنا من خلال تكرار المشاهد التي اعتقدنا أنها خرجت ولم تعد... ولكنها عادت وبسمومة أكبر، فنكبة فلسطين تتكرر إنما بالقتل الإنساني، فبالأمس أجبرت الحكومات العربية في ظل الانتداب على المشاركة ولو شكليا في حرب النكبة عام 1948 مع زخم تطوعي شعبي انتصارا لفلسطين... أما اليوم وفي ظل السيادة والاستقلال فلا يسمح حتى بفتح باب الحارة بل أصبح أمن إسرائيل من الأمن الوطني والقومي العربي باعتباره شرطا إلزاميا لمنح شهادة حسن السير والسلوك لهذا النظام أو ذاك... وهذا ما نراه جلياً في ضبط الحدود والمعابر ومعالجة الأنفاق بدقة متناهية مهما استفحلت الكارثة الإنسانية في غزة، وفي غيرها من الأراضي الفلسطينية، في الوقت الذي تغض الحكومات العربية الطرف عن مئات الأنفاق في أمن ولقمة ومستقبل مواطنيها الذين باتوا يئنون تحت خط الفقر والقهر.

المراهنة على سقوط طرف أو تقليمه في المعادلة الفلسطينية عن أي طريق كان مراهنة خاسرة بل مراهقة سياسية- خصوصا عندما يكون الطرف حركة حماس- أثبتت سذاجتها عبر التاريخ لأنه في حالة الخطر العابر تتآلف الشعوب، فما بالك عندما تكون تحت الاحتلال... فيكون الحس الوطني لديها عاليا بعض الشيء -كما يفترض- ويدفعها للالتفاف أكثر حول رموزها الوطنية وقواها المقاومة مهما تعددت سلبياتها لأنها السند والقوة... وهذا ما فعله الراحل ياسر عرفات -بغض النظر عن رأينا فيه- عندما حافظ على هيكلية المقاومة -رغم أوسلو- ولم يمسسها بنيويا -رغم إداناته المتكررة لها- لأنه أخذ يمنطق التاريخ الذي يحتم التلازم بين التفاوض والفعل المقاوم مهما كانت التباينات الفكرية والاستراتيجية بين الفصائل... وهذا ما تفتقده الآن الساحة الفلسطينية، حيث الصراع لغياب المرجعية والرمز. ولكن هذا لن يمكّن الحصار من فرض شروطه رغم قسوته وإجراميته ورغم التشتت الداخلي... فالأم التي زغردت لسقوط ابنها شهيدا وحزنت لعدم وجود آخر لديها لن يرهبها الحصار مهما تضورت أحشاؤها.

الاختراق الغربي المدني والإنساني للحصار رغم المخاطر عمّق شرخ العجز فينا وأظهر قوة القيد الأمني المفروض على الشعوب العربية، وأظهر حجم التآكل في الذات العربية أيضا، ولهذا نؤكد أهمية التماسك الداخلي الفلسطيني وضرورة التصالح لتأمين الزخم التفاوضي المطلوب ولتعويض رخاوة المحيط العربي تطمينا وشعبيا، ولإغلاق الباب على أي مراهنة خارجية على الشقاق لتمرير أجندة ما... ندرك عمق الأزمة ولكننا نراهن على الحس الوطني الفلسطيني لتأمين متطلبات الصمود.

back to top