هموم شعرية

نشر في 22-05-2009
آخر تحديث 22-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان في أوائل السبعينيات التقينا الشعراء المصري حسن طلب واليمني حسن اللوزي والأردني عبدالرؤوف يوسف وأنا، وقررنا إصدار مجموعاتنا الشعرية الأولى التي ستهز العالم العربي وتبدل خريطة الواقع الشعري، وبعد شهور قليلة صدرت مجموعة مشتركة بعنوان «أوراق اعتماد لدى المقصلة» للشاعرين اليمني والأردني، ثم صدرت مجموعة حسن طلب «وشم على نهدي فتاة» وكنت قد أعددت مجموعتي للنشر وأرسلت مذكرة إلى شركة الأدوية التي أعمل بها لكي أبلغها بمشروعي الشعري، وأطالبها بتحمل نفقات إصدار المجموعة التي قُدرت في ذلك الوقت بمبلغ 150 جنيهاً، وقد وافقت الشركة وسلمتني شيكاً بالمبلغ المطلوب، لكن الشاعرين أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر نصحاني بتأجيل نشر المجموعة والسعي أولاً لنشر قصائدي في الصحف والمجلات المصرية والعربية، والمشاركة في الأمسيات الشعرية لترسيخ وجهي كشاعر.

وأعلن أمل أن الشعراء الجادين ينقلبون على أنفسهم ويحذفون أحياناً الكثير من القصائد التي تحمسوا لها في البداية، ومن ثم فتأجيل النشر يمنح الشاعر فرصة اختيار أجمل قصائده وأقواها لمجموعته الشعرية، وكان عليّ أن أعيد إلى الشركة شيكها مصحوباً بمذكرة أخرى أتحدث فيها عن تأجيل النشر وفوائده، لكن إغلاق المجلات الأدبية والحرب التي أعلنت على الشعراء والكتّاب في السبعينيات أربكتنا وقلصت وأعاقت نشاطنا الشعري أنا وزملائي.

فقد كان كل ما نُشر لي في تلك الفترة ست قصائد نشرها صلاح عبدالصبور ورجاء النقاش في الفترة القصيرة التي توليا فيها رئاسة تحرير مجلتي «الكاتب» و»الهلال»، وفي الفترة نفسها نشرت لي ثلاث قصائد أخرى خارج مصر إحداها في بيروت والثانية في بغداد والثالثة في مجلة البيان الكويتية.

وبسبب هذا الحصار تجمع الشعراء الشبان الحالمون بالتحديث وبالقصيدة الجديدة، وشكل حسن طلب وحلمي سالم ورفعت سلام وأمجد ريان وجمال القصاص جماعة «إضاءه» وشكلت مع عبدالمنعم رمضان وأحمد طه وعبدالمقصود عبدالكريم ومحمد عيد إبراهيم جماعة «أصوات» ومن شعراء الجماعتين برز جيل السبعينيات الذي حارب وحورب، واتهم بالتخريب وانتهاك المقدسات، والانشغال بالقضايا الكبرى، والإيغال في التجريب والغموض.

وبسبب هذه التُهم تحاشت دور النشر القومية التعامل مع الشعراء، وظلت تراوغ أو تؤجل أو تفتش عن مبرر ما للاعتذار عن النشر، وتطلب من لجان القراءة والفحص إيجاد هذا المبرر أو اختراعه أحياناً، وقد قرأت في عام 1981 تقريراً عجيباً عن ديوان لي يشيد فيه الفاحص بالمستوى الفني للقصائد، ثم يوصي هيئة الكتاب بالاعتذار عن نشره لأن الشاعر كما جاء في التقرير «متأثر بالتيار الإلحادي الفرنسي» ودلل الفاحص على هذا التأثر بعبارة «ما من حب سعيد» للشاعر الفرنسي «أراجون»، وكنت قد صدّرت بها إحدى قصائد الديوان.

وقد ظل هذا الحصار قائماً حتى أواخر الثمانينيات ثم بدأ في الانحسار عام 1990 عندما فتحت هذه الدور أبوابها لشعر السبعينيات، وأصدرت عشرات الدواوين التي أربكت القراء والنقاد الذين انصرفوا عن الشعر وانشغلوا بمتابعة الرواية والحديث عن زمنها، وكان من الطبيعي أن يؤدي تراكم النشر إلى بروز بعض شعراء هذا الجيل، وإلى تواري البعض الآخر وإلى تعديل مسارات شعرية عديدة، لكن المهتمين بالشعر خصوصا في العالم العربي مازالوا بعيدين عن منجزات هذا الجيل، ومازال شعراؤه شبه مجهولين بسبب الكسل النقدي والإعلامي والانحدار الثقافي العام.

في المجتمعات المتخلفة تتجاور الأضداد، أكواخ الصفيح والقصور والأمية والشعر الطليعي، ويشعر المبدعون أنهم يكتبون لأنفسهم، وأن أحداً ما قد عزلهم، وبوسعك أن تكتشف عمق هذه العزلة عندما تشارك في ندوة أو أمسية شعرية قاهرية، وترى الوجوه نفسها وجوه الشعراء من كل الأجيال وبعض النقاد، الأمر الذي يذكرنا بالكاتب الألماني الكبير هيرمن هسه وروايته «لعبة الكريات الزجاجية» واللاعبين الذين يكدون في غرف مُغلقة ومعزولة تماماً للحصول على رتبة أستاذ اللعبة.

وفي زيارتي الأخيرة لإحدى أشهر مكتبات وسط القاهرة شكا البائعون عزوف الناس تماماً عن الشعر، وركود دواوين الشعراء النجوم والمثير أن الأجيال المختلفة مازالوا رغم ذلك يصدرون البيانات ويتقاتلون في الصحراء.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top