لسورية عمودها الفقري الضامن
من سوء حظ السوريين أن العراق يجاورهم من جهة، ولبنان من جهة أخرى. وليس هذا انتقاصاً من الجارين اللذين يحبهما السوريون كما يحبّون شقيقاً حقيقياً في الروح والتاريخ والدم، بل إقراراً بحقيقة ما يعانيه شعباهما من مصاعب جمّة وتعثّر في السنوات الأخيرة. هما أقرب ما يكون، لذلك يشكّلان تجربة المختبر العيانية التي يبرهن من خلالها «مفكّرو» السلطة السائدة أن الفوضى هي مصير المسار المدني التحديثي الديمقراطي. وهذا ليس صحيحاً حتى بالنسبة إلى البلدين الشقيقين، لأن أسباب ما يمرّان فيه شيء آخر. وليس صحيحاً بالنسبة إلى سورية للأسباب نفسها، ولأسباب إضافية أخرى، تتمتّع فيها سورية بأفضلية خاصة.من ذلك ما أشرنا إليه في الأسبوع الماضي حول «طبيعة» أهل الشام التاريخية الميّالة إلى التسوية واتّقاء شرّ الأقوياء، وإلى ما سوف نذكره اليوم من تركيبة الجسد السوري الخاصة، واعتمادها على عمود فقريّ يعزّز قوتها ومقاومتها، مما لا يتمتّع به الجاران المذكوران بالطريقة نفسها.ذلك العمود الفقري الذي تقوى به سورية وتتماسك على الشدائد التي ألمّت بها منذ عقود، هو سلسلة من المدن قطبها الشمالي في حلب وقطبها الجنوبي في دمشق، مروراً بحماة وحمص. تدور الحالة الاجتماعية السورية في تنوّع وتعدّد حول ذلك العمود، في جزءٍ شرقيٍ يتألف من بادية وريف كبير ومدن أربع هي دير الزور والحسكة والرقّة والقامشلي، وجزءٍ غربي يتألّف من جبال وريفٍ ومدن ثلاثٍ هي إدلب واللاذقية وطرطوس، وجزء جنوبي يتألّف من سهل حوران ومدينة درعا، وجبل العرب ومدينة السويداء، وهضبة محتلة ومدينة مدمّرة هي القنيطرة.في سورية هنالك «مدنية» أكثر مما في لبنان الغارق في الطائفية، والعراق الغارق في العشائرية والطائفية. هنالك «مدنية» في أريافها أحياناً. والمدنية وِقاءٌ من الفوضى.كان السوريّون الآخرون يعيبون على أهل دمشق قديماً أن جيران الحيّ فيها لا يعرف أحدهم الآخر ولا يتزاورون... وكلٌّ لنفسه. مجتمع من الأفراد اللاهثين وراء مصالحهم، تجارتهم وصناعتهم وحرفتهم. وحتى أفراد العائلة الواحدة ليسوا كثرة، ولا يستطيعون العودة بنسبهم أكثر من جيلين أو أربعة أو ستة، إذا استثنينا التفاخر أو اصطناع الأنساب العريقة أو الشريفة. وذلك رغم معرفة الجميع بأن تلك المدن؛ في العمود الفقري خصوصاً؛ تتألّف من سلالات وأعراق ومهاجرين، من عرب وأكراد وسريان و تركمان وإغريق وأرمن وشركس وكريتيين وألبان، منصهرين بشكلٍ رائع، حتى أنهم لينسون أحياناً أصولهم المختلفة. تلك «مدينة» أقرب إلى المجتمع المدني من المدينة العراقية المؤلّفة أكثر من عشائر، والمدينة اللبنانية الواقعة تحت ظلّ قاتمٍ لأمراء الطوائف-القبائل. رغم أن سياسات السلطة هشمّت شيئاً من مدنيّتها في العقود الأخيرة، وأدّت إلى حصارها بالسكن العشوائي الذي يشكّل عدد مبانيه نصف عدد مباني البلاد، بما يزيد بمقدار الضعف عن أقرب منافسينا من البلدان الأخرى.. على مستوى العالم.«إنهم لا يعلمون أن البيوت تصنع بلدة، والمواطنين يصنعون مدينة»، كما قال جان- جاك روسو. بل يعلمون ولو بشكلٍ غائم ومختلف في مقاربته، أنه لا يمكن محو المواطنة وسدّ السبل عليها إلاّ بإغراقها في «البيوت» والإسمنت المسلّح. تلك البيوت لن تكون خالصة من العشائر والطوائف، ولا حرّة من إسار الفقر والعصبيات المتخلفة وعبادة «الدولة»-السلطة... والحاكم. تقوم المدينة على التجارة والصناعة والحرفة والخدمات والإدارة، وعلى حكم القانون بدلاً من الأعراف والتقاليد، وعلى العقد الاجتماعي بدلاً من العصبيات القديمة، وعلى انعدام التجانس إلاّ من حيث المواطنة (التّي يُشتقّ مفهومها بالأصل من المدينة لا الوطن). المدينة روح وعقلية قد يوجدان في قرية أو مخيّم ولا توجدان في «حاضرة» كبيرة.انعدام التجانس هو الضدّ من عصبية العشيرة والطائفة والعصبة، وهو ميزة فضاء الفرد، هو ميزة المدن التي أصابها الوهن والتصلّب بفعل زمن الاستبداد وصدئه، لكنها لا تزال قادرة على لجم أيّ فوضى أو فتنة. وقدرتها تلك، ناتجة عن مصلحتها قبل وعيها، وعن عطالتها الكبيرة ورفضها للعنف وتعلّقها الزائد بالسلم الأهلي.ومن اللافت أن هذا التعلّق بالسلم الأهلي يجعل «الفرد المدني» يفضّل الاستسلام على العنف، ويقابل الاتّهام بالاستكانة بالابتسام، وإن كان من الممكن تفسير ميله هذا بفردانيّته ومدنيته كخليط بارد، فلا يُمكن تفسير مبالغته في هذا الميل إلاّ بأن هذه «الفردانية المدنية» لم يُتَح لها أن تنضج كمجتمع مدني يملك من الإحساس والموهبة الجمعية ما يجعله يقاوم ويبدع في المقاومة.. السلمية أيضاً.لكن ذلك العمود الفقري للسوريين يبقى واحداً من ضماناتهم ومصادر تبريد هواجسهم التي يصطنعها الاستبداد ويستديمها. * كاتب سوري