على حافة الجحيم

نشر في 19-12-2008
آخر تحديث 19-12-2008 | 00:00
 محمد سليمان في نهاية كل عام ينشغل بعضنا أحيانا بجرد سريع وبسيط لأهم أحداثه، راجيا أن يلوِّن الكسب والإنجاز وجه العام وأن يشكل إطارا له. ولأن هذا الجرد يتناول الأحداث العامة بالإضافة إلى النجاحات والإخفاقات الشخصية، فإن نتائج الجرد وصورة العام تختلفان بالضرورة من شخص إلى آخر... لكن الأحداث العامة الكبرى والمؤثرة تطغى أحيانا وتمد الظلال والألوان فتمنح العام وجها واحدا لا خلاف عليه.

فالحروب والمجاعات والكوارث الطبيعية والاقتصادية والأوبئة وغيرها هي أحداث كبرى تتضاءل إلى جانبها الأحداث الصغيرة والشخصية ومن ثم تصبغ بلونها العام وتميزه.

فعام 1948 هو عام النكبة... وعام 1967 يشير إلى هزيمة يونيو... وعام 2001 يذكرنا بتصاعد المد الإرهابي والهجوم على برجي نيويورك... وعام 2008 الذي يوشك على الانتهاء هو أحد هذه الأعوام الشهيرة.

فقد بدأ 2008 بأزمة غذاء عالمية هددت الكثيرين بالجوع، ثم كان الإعصار المالي الذي عصف بالبنوك والبورصات والمؤسسات وانتقلت تداعياته إلى الاقتصاد الحقيقي لتحاصر الجميع وتجبر الناس في الشرق والغرب على إعادة النظر في معظم مقولات الاقتصاد ونظرياته وأيضا طرائق حياتهم وقيمهم ونظرتهم إلى المستقبل خصوصا بعد أن دفع هذا الإعصار معظم دول العالم إلى نفق الكساد والركود وأجبر الاقتصاديين على محاولة استرجاع دور الدولة الرقابي الذي غيَّبه التوحش الرأسمالي وتعاظم دور الشركات.

وكما تقول نورينا هيرتس في كتابها المهم «السيطرة الصامتة» الذي نشرته قبل ما يقرب من عامين سلسلة عالم المعرفة «إن الحكومات التي حاربت في الماضي من أجل الأرض تناضل الآن من أجل مؤشرات السوق، وغدت إحدى وظائفها الأولى إيجاد بيئة يمكن أن تزدهر فيها الشركات... هذا عو عالم «السيطرة الصامتة» حيث أيدي الحكومات تبدو مقيدة والاعتماد يتزايد على الشركات، والمؤسسات الصناعية والتجارية هي التي تتولى عملية القيادة».

وقد أطاح الإعصار، إلى حد ما، بهذه السيطرة، ودفع الحكومات في الغرب إلى التدخل لإنقاذ المؤسسات من الانهيار والإفلاس. وقد اعترفت حكومتنا أخيراً بخطورة الأزمة المالية وتداعياتها وأثرها على الاقتصاد المصري، بعد أن أخفت في البداية ذلك الأثر، مدعية أن اقتصادنا محصن ولا علاقة له بما يحدث في العالم... ليقر وزير الصناعة والتجارة في تصريحات صحفية بأن «هناك مخاوف حقيقية من انعكاس تأثيرات الأزمة العالمية على اقتصادنا بصورة أعمق خلال الفترة القادمة»... ويشير إلى بعض المصانع التي قلصت إنتاجها مع انخفاض الطلب في الأسواق الأوروبية والأميركية، معربا أيضا عن قلقه الشديد على الصناعة المصرية من المنتجات الصينية والهندية التي تتجه إلى أسواقنا لتعويض ما فقدته في الأسواق الأخرى. ويبدو أن الوزير قد تأخر كثيرا في رصد المنتجات الصينية التي غزت أسواقنا في السنوات الأخيرة وساهمت في تدمير صناعة الغزل والنسيج المصرية التي عجزت عن منافسة الملابس الرخيصة القادمة من أقصى الشرق والتي يدور بها الصينيون في شوارع المدن والقرى.

ولم يثنِ الاعتراف بخطورة الأزمة العالمية وتداعياتها وسعي الاقتصاديين لاسترجاع دور الدولة كمراقب وحارس، حكومة رجال الأعمال عن مواصلة حمى الخصخصة وبيع أراضي الدولة والتخلص من بقية شركات القطاع العام. وكان آخر مخترعات الحكومة الذكية قانون الخصخصة الجديد أو ما يعرف بـ«بقانون الكوبونات» الذي تحدث عنه وزير الاستثمار قبل أسابيع وسيعرض على البرلمان في الأيام المقبلة لمناقشته وإقراره. ويسعى هذا القانون إلى نقل ملكية الشركات إلى المواطنين البالغين، أي أربعين مليونا من المصريين، بموجب صكوك مجانية توزع عليهم بغرض النهوض بهذه الشركات وتطوير وتحسين إدارتها!

وقد أثار هذا القانون المقترح كثيرا من الشكوك والتعليقات والنكات في صحفنا وشارعنا. فراح البعض يتحدث عن «صكوك الغفران» التي تحاول بها الدولة رشوة المواطنين وشراء موافقتهم على توريث الحكم، بينما تحدث البعض الآخر عن الصكوك الشيطانية التي تسعى بها الحكومة إلى إبراء ذمتها وتقنين الخصخصة بعد أن باعت- دون الرجوع إلى الشعب- معظم ممتلكاته.

وهذه الصكوك سينتهي بها الأمر في تقديري إلى جيوب رجال الأعمال. فرجل الشارع بدخله المحدود والعاجز عن مواجهة موجات الغلاء والذي لا يعرف شيئا عن البورصة والأوراق المالية سيتخلص من هذه الصكوك بالبيع ربما «بتراب الفلوس»... لكي تتجمع في النهاية في خزائن رجال الأعمال، ولكي يصبح الغني أكثر غنى والفقير أكثر فقرا، ولكي يقف المجتمع بسبب ضيق الأفق وجشع الكبار واستبدادهم على حافة الجحيم.

*كاتب وشاعر مصري

back to top