الخيال لشاكر عبد الحميد... من الكهف الى الواقع الافتراضي
صدر حديثاً لدى «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت» ضمن سلسلة «عالم المعرفة» كتاب «الخيال: من الكهف إلى الواقع الافتراضي» للمؤلف الدكتور شاكر عبد الحميد. يحاول الكاتب استكشاف بعض جوانب الخيال، والتعرف على نظرة الإنسان إليه وكيف فسّره عبر التاريخ، والتقاط بعض ما أدركه الفلاسفة وعلماء النفس والفنانون التشكيليون والأدباء وفنانو المسرح والسينما وغيرهما من الحقول المعرفية، وكذلك بعض ما قدموه أيضاً في ما يتعلق بالخيال وتصوّروه بشأنه.يؤكد الكاتب أن الخيال يؤثر على كثير من جوانب الحياة الإنسانية، وهو يؤدي دوراً حاسماً في الأدب والفن التشكيلي، في السينما والمسرح، في التربية والتعليم، في الصحة والمرض، ولدى الكبار والصغار، الذكور والإناث، وعبر الثقافات الإنسانية المتنوّعة. وكذلك في الاختراع العلمي لدى الإنسان عبر التاريخ.
يشير عبد الحميد إلى أن الخيال في جوهره هو سجلّ لقدرة الإنسان الإبداعية التي تطورت عبر التاريخ، وحجر الزاوية في النشاط الإنساني، وهو الذي مكّن الإنسان من غزو العالم واستكشافه وفهمه، ومحاولة السيطرة عليه. وأقدم دلائل معروفة على الخيال الإنساني هي رسوم الكهوف والأساطير، لأن الصورة لدى الإنسان سابقة على اللغة الشفاهية، وهذه بدورها سابقة على اللغة الكتابية، وقد كانت أحلاماً وكوابيس قديمة، لكننا لم نعرفها إلا عندما جسّدها الإنسان القديم في رسومه وأساطيره.خداعيفيد عبد الحميد بأنه وعبر قرون من تاريخ الفكر الأوروبي، اعتُبر الخيال أحياناً، وفي أحسن أحواله، وسيطاً بين الإحساس والتفكير، وفي أسوأ حالاته، قوة خداعية مراوغة. لكنه أصبح، منذ الحركة الرومنطقية، الملكة أو القدرة الأولى في العقل الإنساني. كذلك نظر بعض الفلاسفة والعلماء نظرة مشكّكة مرتابة إلى مفهوم الخيال، فربطه بالخداع الإدراكي وأحلام اليقظة والهلاوس والأشباح والكوابيس والقصص الخيالية. وهكذا مال فلاسفة ينتمون إلى القرن السابع عشر، أمثال هوبز وديكارت وإسبينوزا، إلى الشعور بعدم الارتياح في ما يتعلق بهذا المفهوم، ومع ذلك، فإنهم أدركوا، ولو من خلال مبررات مختلفة، أن للخيال موضعه المهم في التفكير الرياضي والعلمي والفلسفي: فالعقل لا يمكنه أن يعمل من دون خيال.وبحسب الكاتب، يخترق الخيال أكثر من أي قدرة أخرى، ذلك القصور الذاتي المميّز للعادات السلوكية، والتفكير النمطي الذي يتحرك في ما يشبه العادات العقلية، إذ يتجاوز الخيال تلك العادات ليصبح جوهر الوجود الإنساني، إن لم يكن هو الوجود الإنساني نفسه. وكذلك لا يتناقض مع العقل، بل يعمل على تنشيطه وإثرائه، فالخيال الإنساني يقوم على أساس مبادئ التفكير المنطقي العقلاني الأساسية نفسها. فالتفكير الخيالي وذلك العقلاني ليسا متعارضين، وثمة جوانب مشتركة بين المنطق والإبداع، فالأخير يقوم على أساس منطق خاص، وربما يكون هو منطق الإبداع الخاص نفسه. ويقوم المنطق والتفكير الناقد وعملية حل المشكلات، على أساس اقتراح البدائل والتفكير في أفضلها، وهذا هو جوهر الإبداع الذي يتكوّن على أساس الخيال، وما الخيال في جوهره إلا تفكير في البدائل الأخرى للواقع، وكذلك الراهن والراكد والمقيم والآسن من الأمور. وهكذا يقوم التفكير المنطقي على أسس خيالية أكثر من تلك التي فكر فيها بعض الفلاسفة وبعض علماء النفس المعرفيين. يؤكد عبد الحميد أن للخيال أنواعاً عدة، فالبعض خياله لغوي والآخر تشكيلي مكاني والثالث اجتماعي والرابع هندسي والخامس علمي أو تجاري ومعلوماتي وهكذا، ومن هنا علينا كشف الخيال السائد لدى تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات وتطويره، وعلينا في البداية أن نجعلهم على ألفة بفكرة الخيال وأهميته عموماً، ثم نوّجه بعد ذلك كل طفل أو مراهق أو حتى راشد وفق خياله المميز. ويعتبر عبد الحميد أن تشجيع الناس على التحرر من الأنماط الثابتة والقوالب الجامدة في التفكير، وعلى أن يكونوا أكثر مرونة وأصالة، هو إحدى الطرق الأساسية في تنشيط الخيال والإبداع، والعمل على تكوين بنى معرفية خاصة في ظل بنى جامدة مغلقة معاكسة.إدراكيورد عبد الحميد أن الخيال يقع في تلك المنطقة المشتركة التي توجد ما بين الإدراك والذاكرة وتوليد الأفكار والانفعال والاستعارة والمجاز واللغة وغيرها. وهكذا يكون بعض الصور العقلية المرتبطة بالخيال، مجرد أصداء مترددة تكرر ما سبق أن أدركناه، لكنّ تلك الصور قد تخضع أيضاً من خلال التخيّل والخيال للتغيير والدمج والمعالجة لتصبح تركيبات من الصور الجديدة التي لا تشبه شيئاً موجوداً سابقاً. وهكذا قد تستطيع الذاكرة تحويل الصور الإدراكية وتمثيلها وتخزينها في مخازنها القصيرة أو البعيدة المدى بفعل النشاط الوسيط الخاص بالذاكرة العاملة أو النشيطة التي تربط حاضر الإدراك بماضي الذاكرة البعيد أو العكس بالعكس. وترتبط تلك الجدة والطزاجة الخاصة بالصور التي ينتجها الخيال بقدرته على تكثيف صور الإدراك (الحديثة نسبياً)، وصور الذاكرة (القديمة نسبياً) وربطها معاً بطرائق مرنة غير متصلبة بل احتمالية وترجيحية، من خلالها يستطيع الإنسان تخيّل الاحتمالات والحلول والأشكال الجديدة. كذلك تؤدي الانفعالات والمشاعر دوراً مهماً هنا، فنحن عندما نتخيل شيئاً ما نميل إلى الشعور به كما لو كان حقيقياً وحاضراً، ومن ثم نحاول بلورته بطرائق واقعية، تكون هي الإنتاجات الإبداعية التي نعرفها، والتي هي «هدايا الخيال».يتوقف عبد الحميد عند موضوع التربية والخيال، فيعتبر أن الطالب لا بد من أن يتعلم المواد الضرورية، وفق مراحل عمره، والقراءة والحساب واللغة والمواد الأخرى وفق المراحل الدراسية المعروفة، ولكن تقديم هذه المواد وحدها ليس كافياً، فلا بد من أن تزوَّد البرامج الدراسية وتُثرى بالمكوّن الضروري الآخر المفقود في التربية، ألا وهو المكوّن الخيالي، وأن يتمكن الطالب من التفكير بالطريقتين معاً، الطريقة المألوفة وغير المألوفة، الخيالية، وفق الموقف والعمر. أما الاقتصار على تعليم التفكير بالطرائق المألوفة فحسب هو أصل البلاء. فالخيال يمكِّننا من القيام بتجارب فكر، ليس في العلم فحسب بل أيضاً في الأدب والفن والحياة عموماً. كذلك يمكِّن الطلاب من فهم المواضيع والإضافة إليها من خلال تجارب فكر أيضاً، ما بين الطريقة المألوفة وتلك الخيالية المحلّقة غير المألوفة، تقوِّم التربية عن طريق الخيال وتوسّس، في الفن والعلم وغيرهما، وهي تربية عن طريق الإبداع، وعلى طريق المستقبل.قيوديلفت المؤلف إلى أن ثمة توتراً دائماً بين تأكيد ضرورة تعليم الطلاب المواضيع التقليدية التي يتخصصون فيها ويعملون بعد ذلك من خلالها من ناحية، وبين تشجيعهم على التمكّن من الوصول إلى نوع من الحرية العقلية من أسر هذه المواضيع التقليدية، بجعلها أدوات وليس مجرد قيود من ناحية أخرى. ونمط التعليم الغالب في معظم بلدان العالم، وفي كثير من البلدان العربية، هو تأكيد تعليم المواضيع التقليدية لإنتاج الموظف المتخصص أو حتى غير المتخصص، مع حشو عقول الطلاب بمواضيع كثيرة من خلال الكتب التي يتمنون يومياً التخلّص منها. أما الخيال فلا يتعارض مع التوقعات المطلوبة من التعليم بل يؤكدها ويضيف إليها، ولا يتعارض مع المهام المطلوبة من الطلاب التي يحققونها من دراسة بعض المواضيع المدرسية ويتمايزون من خلالها بواسطة الامتحان، التعليم الخيالي لا يتعارض مع هذا، لكن أصحابه يقولون بضرورة أن تخفف وزارات التعليم في عالمنا العربي عن كاهل التلاميذ والطلاب وعن عقولهم، وأن تقدم لهم ما هو ضروري فحسب، ومهم في الحياة وفي حاضرهم ومستقبلهم من دون أثقال أو إرهاق، بل أن يتم ذلك بطرق مبهجة وممتعة وجذابة.