مختارات من الشعر اللبناني المعاصر
تأليف: حمزة عبودالناشر: دار الفارابي
خيراً فعلت اللّجنة الوطنيّة اللبنانيّة لليونسكو محتفلة بالذكرى الستين لإنشائها، موكلة إلى الشاعر حمزة عبّود مهمَّة اختيار أسماء لبنانيّة معاصرة ذات ظلال شعريّة، وإن بتفاوت ملحوظ، لتشكّل حديقة شعريّة معلَّقة، ما أكبر حاجة خزانتنا الأدبيّة إليها، فاللّجنة أعطت القوس باريها، وعلى سنّة الشاعر القروي رشيد سليم الخوري «ومن في الشعر كالشعراء يفهم». اختيار الكلاميقيني، كما قال أحد النقّاد العرب القدامى «يكاد اختيار الكلام يكون أصعب من تأليفه»، وعليه فإنّ أيّ متتبّع أثر القصيدة لا بدّ له من الإقامة في شباك الحيرة طويلاً، ومن الوقوف تحت قناطر التردّد طويلاً، ومن إقامة جردة حساب لعلاقاته الشخصيّة في ضوء البورصة الثقافيّة الإعلاميّة الناشطة لبنانيّاً وعربيّاً. أمام ديوان الشعر اللّبناني المعاصر «مختارات» للزميل عبّود واحتراماً لتعب من يحاول إيواء الشعراء الكثيرين في دارة لائقة واحدة من ورق وحبر، وحفظاً لحقّ من يسقطون سهواً أو عمداً، وهم ذوو وزنات شعريَّة أصيلة، من حساب بنّائي الدارات الجامعة، لا بدّ من الإعتراف بأنّ محاولات تأليف كتب متعدّدة الأسماء أتت ناقصة ولم تكن لها أجزاء ثانية بمثابة الملاحق، الأمر الذي يسيء إلى مبدأ كتب الأنطولوجيا وفكرتها. صحيح أنّ الإلمام الكامل بكلّ الشعراء، وبلا أيّ استثناء، أمر صعب جدّاً، غير أنّ الصعب في هذا المجال هو واسطة العقد في العمل وإلاّ فأين يكون فضل الجامع والباحث؟ نجا حمزة عبود من سهام الملام حين أعلن أنّه هدف إلى تمثيل مختلف الإتجاهات والتحوّلات الشعريّة في مختاراته، بعيداً من الاعتماد على الاختيار بحسب الفحولة الشعريَّة إذا صحّ التعبير. استطاع أن يقدّم المشهد الشعري منذ خمسينات القرن الماضي، ولم يخفِ أنّه ركّز على شعراء ساعدتهم الرافعات الصحافيّة والأدبيّة من صحف ومنتديات ثقافيّة، مسمِّياً مجلَّة شعر وبعض أعلامها... رمى صاحب «مختارات» إلى إظهار «التأثيرات المتعدّدة التي استشرفتها القصيدة» ليكتشف أنّ تجارب الصحافة الأدبيّة والشعريّة مدّت جسور الإتّصال والتواصل بين الواقع الأدبي اللّبناني والمطارح التي شهدت حركات تجديديّة في العالم فكراً وأدباً وفنّاً. إذا كان الصراع بدأ بين الكلاسيكيّة وما يدور في فلكها وبين حداثات عصر النهضة فإنه انتقل إلى ميدان قصيدة النثر، القصيدة التي تتحرّر من الشكل، وتجلّى أيضاً بين «قصيدة التفعيلة» و«الشعر الحرّ». سعى عبّود إلى تسليط الضوء أيضا ًعلى أصحاب التجربة الحديثة من الشعراء الشبّان وهم جيل ما بعد الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، لم تفته الإشارة إلى أنّ تجربة الشباب ليست مكتملة ولم تتبلور مراحلها بعد لتصل إلى خواتمها الثابتة. رأى عبّود أنّ جديد شعراء الشباب يكمن في قصيدتهم التي لم تعد تحفل بتقديم «رؤية إلى العالم» بقدر ما تعبّر عن اللّحظة الراهنة الموشومة بوجع الحاضر واليوميّ والفكرة الطارئة وذلك بارتباط وثيق مع حقيقة الحدث والمشهد والمعاش. تجنّب الجلوس على منصّة التقييم، حاول إدراج شعرائه في سياقات معيّنة تاركاً للقارئ الاستقلاليّة في قراءة الشاعر، ارتكز على المختارات التي كرَّسها الحضور الإعلاميّ والأدبيّ كنماذج ذات قدرة تعبيريَّة عن أصحابها، إضافة إلى نصوص بعيدة من الضوء، والهدف الأكبر هو رصد مدى تأثر القصيدة اللّبنانيّة بحركة الشعر العالميّ لا سيّما بعد ترجمة منتجات شعريّة وأدبيّة غربيّة إلى العربيّة على صفحات «شعر» و«آداب» و«حوار».الأوزان الخليلةتمكّنت القصيدة الحديثة منذ خمسينات القرن الماضي فرض حضورها واجتياز الأوزان الخليليّة كمعيار بديهيّ للشعر تحت تأثير الإنفتاح الثقافي والفنّي الكبير على الغرب والعالم وأمست قصيدة النثر ذات موقع فاعل بعد معارك أدبيّة طويلة لها من مجلّة «شعر» الساحة والفرسان. في حديقة عبّود الشعريّة المعلّقة ستّة وستّون شاعراً لهم مع القصيدة إبحارات منها ما هو ذو إقامة شهيّة في ذاكرة البحر وآخر تمنعه قصر ظلاله من رسم خطو أنيق على رمال الشاطىء. لافتٌ أنّ أهل القصيدة الحرّة المتفلّتة من كلّ أسر للشكل ومن كلّ قيد للموسيقى قد استسهلها الكثيرون وطرقوا بابها بلا تهيّب وكان لهم من عملهم الصحافي ما ساعدهم في فرض أسمائهم وتكريسها في حين أنّهم أتوا بكائنات لغويّة عجزت عن أن تكون قصائد بالمعنى الحقيقي للكلمة. كذلك بدت الطلسمة لافتة في كثير من القصائد الحديثة وكأنّها القاسم المشترك بين عشرات النصوص ليقتصر التميّز الحقّ على ضفاف شعراء ذوي جملة خاصّة وعلى سبيل المثال لا الحصر: أنسي الحاج وسعيد عقل وأدونيس وباسمة بطولي، وجوزف حرب، وجوزف صايغ، وخليل حاوي وشوقي بزيع...ما يحصل مع أصحاب المختارات شبيه إلى حدّ بعيد بما يحصل مع مؤلّفي الكتب المدرسيّة التي تستضيف شعراء وأدباء من طراز أمين نخله وجبران ومارون عبّود... و«يُحشَر» بجانبهم من ليسوا يتمتّعون بالقماشة الأدبيّة التي تخوّلهم إثبات أنفسهم أعلاماً مستحقّين كلّ لقب وثناء، وذلك يعود إلى العلاقات التسويقيّة الرائجة وغياب النقد الصريح الذي لا يخجل غرباله من أحد. ممّا لا شكّ فيه أنّ عبّود سعى صادقاً إلى كتاب جامع، قدر الإمكان، لكنّ السؤال يُطرَح، بلا توجيه أيّ اتّهام إلى صاحب «مختارات»، مَن للشعراء الّذين هم خارج البورصة الإعلاميّة في لبنان؟ عندنا بات أهل القصيدة الحديثة بالآلاف، من المجدي جدّاً دعوتهم إلى غربال وقح احتراماً للشّعر على الأقلّ، وصار من الملحّ أن ننظر إلى شعراء كثيرين لا يتّسع المجال لذكرهم بغية إنصافهم لأنّ خطيئتهم التي لا يجب أن تكون مميتة تُختَصَر بعدم ركوبهم قطارات الإعلام والتطبيل والتزمير.«مختارات» حمزة عبّود خطوة شعريّة تساهم في جمع شمل الشعراء تحت سقف واحد وهي تقدّم للقارئ مادّة تمكّنه من قراءة عصر شعريّ متعدّد راصداً ما فيه من تحوّلات طالت العمود الفقري للقصيدة، وعسى يصير عندنا بيت الشعر أو بيت الشاعر وفيه نسخة من كلّ ديوان، بذلك ننشىء ذاكرة شبه كاملة للشعر اللّبناني بها يستعين كلّ من أراد بناء الحدائق الشعريّة المعلّقة.