هنا... وهناك

نشر في 14-11-2008
آخر تحديث 14-11-2008 | 00:00
 محمد سليمان يستحق الشعب الأميركي منا تحية كبيرة فقد منحنا درساً واضحاً وبليغاً في الديمقراطية المعنى والممارسة، وأثبت لنا أن التغيير ممكن إذا صح العزم وتوافرت الإرادة، فقد رأينا وتابعنا ذلك الاندفاع العظيم لشعب مُفعم بالحيوية، وحالم بمستقبل أفضل، وراغب في تجاوز التعثر الداخلي والخارجي لكى يُعلن في صناديق الانتخاب بصوت شامخ وعال انحيازه للتغيير واختيار المُبشر به باراك أوباما كأول رئيس لأميركا من أصول إفريقية، هذا الدرس وحده محا بعض ملامح صورة أميركا المتعالية والمتجبرة والمدمرة التي كرستها إدارة الرئيس جورج بوش في السنوات الأخيرة وهي الصورة التي حذر منها توماس جيفرسون أحد بُناة أميركا الكبار ورئيسها الثالث عندما قال «أرى أميركا في المستقبل تهز عصاها على رؤوس الأمم الأخرى، وآمل مع ازدياد قوتنا أن نزداد حكمة في الوقت ذاته».

في صباي كان مدرس التاريخ في قريتي يطلق على أميركا اسم «العالم الجديد» قائلاً: هي دولة استثنائية وعالمية هاجر إليها وبناها بشر من كل القارات والألوان والثقافات واللغات، واستطاعوا أن يُشكلوا أمة ودولة عالمية قوية وشابة، نجاحها يعني نجاح العالم القديم في تجاوز محن الانقسام والتعصب والصراعات الدينية والتاريخية، ثم يتحدث عن تقصير المصريين والعرب في الهجرة إليها بأعداد كبيرة للمساهمة في بناء ذلك العالم الجديد.

في الوقت الحالي صار الرئيس الأميركي شئنا أم أبينا رئيساً للعالم قادراً على الانشغال بحل مشاكله أو إضرام النار فيه، لذلك غدا انتخاب رئيس أميركي جديد حدثاً عالمياً تنتظره شعوب العالم المختلفة وتتابعه وتود المشاركة في اختيار هذا الرجل الذي يستطيع بسياساته التأثير على أحوالها ومصائرها.

لكن هذا الدرس الأميركي الجميل كان له أيضاً أثرا آخر مُحزن وموجع، فقد وضعنا أمام حائط المرايا لكي نرى جمودنا وشيخوختنا وواقعنا القديم، وذلك التاريخ الطويل من القهر والركود واللامبالاة الذي نجرّه خلفنا كذيل هائل وثقيل، فالمصريون منذ العصر الفرعوني لم يشغلوا أنفسهم بالسلطة أو بشخص الحاكم، واعتبروا الانشغال بهذه القضايا أمراً يخص الطامعين والقادرين ومن لا يجدون ما يشغلهم، وإن كانوا قد رحبوا دائماً بالحاكم القوي القادر على حماية البلاد وترسيخ الأمن ومحاربة الفوضى بغض النظر عن أصله أو جنسيته، ومن العبارات الشائعة على ألسنة الناس خصوصا في القرى والأحياء الشعبية قولهم «ربنا يولي من يصلح».

وهم بهذه العبارة قد أعفوا نفسهم من المشاركة في اختيار حاكمهم أو انتخابه تاركين هذه المهمة لله سبحانه وتعالى، مُعتبرين الحاكم الصالح مكافأة من الله لهم على صلاحهم، والظالم عقوبة يستحقونها لسبب أو لآخر، لذلك ندرت في مصر الثورات الشعبية ومحاولات الخروج على الحكام، وكثرت في الوقت نفسه الشكاوى الموجهة إلى الله القادر على إزاحتهم ووضع حد لفسادهم وظلمهم، وكثرت أيضاً النكات التي يجلدون بها حكامهم وينتقمون منهم، وقد فشل المثقفون والإعلاميون والكتّاب في تغيير أو هزّ هذه القناعة ودفع الناس إلى الاهتمام بالمشاركة في اختيار حاكمهم، وصنع مستقبل بلدهم ربما بسبب انحسار العزم وهشاشة الإرادة، واقتناع الأغلبية بعبثية الانتخابات في بلادنا، فالرئيس يفوز دائماً لأنه الرئيس، ورجاله يفوزوزن أيضاً لأنهم رجاله، ولا فرص هناك للمستقلين أو المعارضين، وقد رسخ العنف والتزييف والبطش بالمعارضين هذه القناعة الأخرى.

والمأزق الذي نواجهه الآن لا مثيل له ويتمثل في التصحر السياسي وغياب البدائل، فالرئيس لا نائب له يوفر للشرعية إطاراً ويعد الناس بانتقال هادئ للسلطة، والأحزاب السياسية كائنات شبحية لا يشعر بوجودها رجل الشارع ولا يعرف أسماء معظمها بسبب حبسها في مقارها منذ عقود، ومحاصرتها بقانون الطوارئ، والإخوان المسلمون بسبب تشددهم وغموض خطابهم السياسي ومجافاته لروح العصر لن يقدموا بديلاً يرضي المواطن المصري الكاره بطبعه لكل أشكال التطرف والتشدد.

صناديق الانتخابات النزيهة محاكم تُصدر أحكاماً عادلة تُكافئ الجيد وتعاقب الرديء، وتفتح الباب لتداول السلطة وتجديد شباب الأمم، لكننا عجائز كما أقول في إحدى قصائدي لا ننتمي إلى هذا العصر ولا نعيش فيه:

«نحن العجائز الذين كلموا الهواءَ

في صحارى الشرقْ

نريد أن ننام

عظامنا مُفككة

رموشنا توجعنا

وأرضنا يلفها الظلام

الآخرون يدفعوننا للسير أحياناً

الآخرون بالعصي والفضائيات والهدايا

لا يعرفون أننا شخنا

وأننا نلتف بالماضي

وأننا نحب أن نظل كالأعتاب ِ

في أبواب دورنا

مُسلحين بالوصايا

ومظلمين مثل قاطعي طرقْ».

* كاتب وشاعر مصري

back to top