الدين والشرعية السياسية 5

نشر في 09-06-2008
آخر تحديث 09-06-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

لا حل للصراع بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية إلا بالشرعية التاريخية، وفك حصار الزمن عن الوعي القومي بين الانجذاب إلى الماضي كما هي الحال عند السلفيين، والانبهار بالمستقبل كما هي الحال عند العلمانيين، والانسداد في الحاضر كما هي الحال عند سواد الأمة.

تعطي شعارات الجماعات الإسلامية شرعية لرفض الأمر الواقع والتمرد على النظام الحاكم. فشعار «الحاكمية لله» لا يعني أن الله يأتي ليحكم ويخلص البشر مما هم فيه من مآسٍ بل تعني رفض حاكمية البشر، رفض الأيديولوجيات العلمانية للتحديث، الليبرالية التي حكمت مصر قبل 1952، والقومية أو الاشتراكية التي حكمت بعدها، والماركسية التي حكمت في جنوب اليمن بمفردها أو في تحالف في سورية العراق. فقد ضاعت نصف فلسطين في 1948 إبان العهد الليبرالي. وضاع النصف الآخر في 1967 في العهد القومي. كما يعني الشعار الحاكمية للقانون الإلهي ضد ظلم القوانين الوضعية وانتهاك حقوق الإنسان، وضياع حقوق المواطن.

كما يدل شعار «الإسلام هو البديل»، وشعار «الإسلام هو الحل» على طريق الخلاص من مآسي العصر وأحزانه بعد أن زادت رقعة الأرض المحتلة، وعظم قهر المواطن، واتسعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتجزأت الأمة إلى أقطار في طريقها إلى أن تصبح دوليات طائفية وعرقية تكون فيه إسرائيل أقوى دولة في المنطقة تستمد شرعيتها من البيئة الجغرافية السياسية الثقافية المحلية بعد أن استمدت شرعيتها أولا من أساطير المعاد والشعب المختار.

وطالما أن الواقع في أزمة، تسري مثل هذه الشعارات لقدرتها على تجنيد الناس لما فيها من قوة على الرفض دون أن تعني شيئا محددا، إيجابا لا سلبا. فلم تتحول إلى برامج سياسية اجتماعية اقتصادية تقدم حلولا عملية ملموسة لمشاكل الجماهير. وهي شعارات مغلقة، لا تقبل الحوار ولا أنصاف الحلول. تُؤخذ ككل أو تترك ككل. هي أشبه بعناوين رئيسة في الصفحات الأولى لجذب الانتباه. تدل على القدرة دون الدولة، والانتفاضة دون السلطة، والصرخة دون الكلام.

وتستمد الجماعات الإسلامية شرعيتها من لحظتين تاريخيتين. لحظة ابن تيمية وهزيمة المسلمين أمام التتار واحتلالهم بغداد وهم في طريقهم إلى دمشق. مسلمون يقتلون مسلمين، ويغزون أراضي مسلمين، ويحكمون بشريعة خاصة بهم «الباسة» وليس بشريعة الإسلام، ومن ثم إصدار الحكم بتكفيرهم، وقياسا عليه تكفير كل من لا يحكم بشريعة الله. وابن تيمية حاضر في الحركة الإصلاحية الحديثة منذ محمد بن عبدالوهاب حتى رشيد رضا والجماعات الإسلامية المعاصرة.

واللحظة الثانية هزيمة يونيو 1967 التي أصبح «معالم في الطريق» لسيد قطب تعبيرا عنها. فقد انهار الحلم القومي، واحتلت مصر وسورية وفلسطين. ولم يستطع النظام الذي استبعد الإخوان الدفاع عن حرمات البلاد واستقلال الأوطان. فاشتد التقابل بين حاكمية الله وحاكمية البشر، بين الإسلام والجاهلية، بين الله والطاغوت، بين الإيمان والكفر، بين النور والظلام، بين الحق والباطل، بين العلم والجهل. وحدث تقابل بين نفسية السجين ظلما، وتحت آلام التعذيب بالسياط والنار وبين الأوضاع الخارجية، العدل والظلم، الحرية والقهر، الاستقلال والاحتلال. فانتشر «معالم في الطريق». وقدم إلى الجماعات أفضل نسق نظرى يعبر عن نفسية المضطهدين المختبئين تحت الأرض مثل الملقى في غياهب السجن. وكان استشهاد سيد قطب في أغسطس 1965 بمنزلة المؤشر على هزيمة يونيو 1967 وكما صور ذلك نجيب محفوظ في «الكرنك»، سياط تلهب أجساد المعتقلين في السجون، وقنابل وصواريخ تقذفها الطائرات الحربية الإسرائيلية على القواعد والمطارات العسكرية المصرية، لا فرق بين الاعتداء على المواطن في الداخل باسم الدفاع عن النظام والعدوان على الوطن في الخارج باسم الدفاع عن النفس.

والتحدى بالنسبة للمستقبل هو التعامل مع المحافظة التقليدية الموروثة منذ ألف عام والسلفية أحد مظاهرها. وهي الرصيد التاريخي الذي يمد الجماعات الإسلامية بل أجهزة الإعلام في الدولة وفتاوى رجال الدين بما يحتاجونه من مصادر لتبرير مواقف كل فريق على اختلافهم في المواقف والأهداف السياسية، وتعني المحافظة إعطاء الأولوية للعبادات على المعاملات، وللعقائد النظرية على السلوك العملي، ولعالم الغيب على عالم الشهادة، وعلى الإيمان في أشكاله الخارجية على العمل الصالح باعتباره المعبّر الوحيد عن الإيمان، وللدين كغاية في ذاته على الدين كوسيلة لإسعاد البشر وتحقيق مصالحهم العامة.

وهو نفس التيار السائد في أجهزة الإعلام، صفحات الفكر الديني، والجرائد والمجلات الدينية، وحديث الروح، ودروس تفسير القرآن بعد صلاة الجمعة، ونور على نور من دعاة حرفيين مثل نجوم المجتمع بأزيائهم المعروفة. ولا فرق بين البرنامج الديني و«ماتش» الكورة، والتمثيلية التلفزيونية، وفاصل من الرقص الشرقي وخطب الرئيس ونشاط حرمه. كل ذلك بؤر إعلامية تقوم بنفس الدور، ملء الفراغ السياسي والثقافي في البلاد.

وفي نفس الوقت تشتد المحافظة الاجتماعية أمانا من الفقر، وحرصا عن الضياع، وحماية بالموروث الثقافي، وتعويضا عن مآسي العصر وأحزان الزمان، فيكثر التفويض إلى الله، ويزداد الاعتماد عليه، وتكثر الموالد، وزيارة المقابر، والتبرك بأولياء الله الصالحين. وترسل الرسائل إلى الإمام الشافعي لتلبية طلبات المحتاجين. وتستدعى مريم العذراء والسيد المسيح لنفس الغاية، فإذا ما انسد طريق التغير الاجتماعي من أسفل انفتح طريق الدين من أعلى، ويتحول الدين إلى حلم المجتمع في النجاة من أحزان العصر والتخلص من مآسيه.

التحدي إذن هو التحول من المحافظة إلى التحرر عن طريق تحويل الرافد التاريخي الأساسي من اختيار القدماء منذ الغزالي حتى حركات الإصلاح الديني إلى مطالب المحدثين، من الأشعرية إلى الاعتزال كما حاول محمد عبده في «رسالة التوحيد»، ومن النص إلى الواقع كما حاول الشاطبي في «الموافقات»، وعلال الفاسي في «مقاصد الشريعة ومكارمها»، ومن التصوف السلبي إلى التصوف الإيجابي، ومن الفلسفة المنطقية الطبيعية الإلهية إلى فلسفة الذاتية كما هو عند محمد إقبال، ومن العلوم النقلية إلى العلوم العقلية مثل اجتهادات كثير من المحدثين.

كما يمكن الاعتماد على قوى التقدم والتغير الاجتماعي التي مازالت تبحث عن أيديولوجية تجمع بين الماضي والحاضر، بين التراث والتجديد، بين شرعية الإسلام وشرعية الثورة كما حاول اليسار الإسلامي الذي مازال متهما من الإسلاميين بأنه ماركسية مقنعة، ومن العلمانيين بأنه أصولية متخفية وتوزيع أدوار، ومن الدولة بأنه إخوانية شيوعية لأنه جزء من المعارضة الوطنية بجناحيها الرئيسين، الإسلامية والقومية.

لا حل للصراع بين الشرعية الدينية والشرعية السياسية إلا بالشرعية التاريخية، وفك حصار الزمن عن الوعي القومي بين الانجذاب إلى الماضي كما هي الحال عند السلفيين، والانبهار بالمستقبل كما هي الحال عند العلمانيين، والانسداد في الحاضر كما هي الحال عند سواد الأمة التي لا تجد مخرجا لها إلا النزول تحت الأرض لاكتساب الشرعية الدينية، أو الصعود إلى مراكز الحكم لاكتساب الشرعية السياسية أو الهجرة إلى خارج الأوطان لاستعارة شرعية من الآخر أو التوقف في المكان حتى يتوقف القلب لانعدام الحركة «ولكل أجل كتاب» للأفراد «وتلك الأيام نداولها بين الناس» للشعوب.

* كاتب وباحث مصري

back to top