الشاعر وبائعات الياسمين

نشر في 18-02-2009
آخر تحديث 18-02-2009 | 00:01
 زاهر الغافري يتوجب القول أولاً، إن النزهة طريق مختصرة للتفكير في شيءٍ ما، وعلى عادة المشّائين الكبار، لن يوقف شيءٌ، شاعراً ينوي الوصول الى نقطة اللاعودة، الى ما وراء الأفق.

لكن ما الذي سيكتشفهُ هناك. لِمَ يرمي برأسهِ الى الخلف وينظر بعينين ضيقتين ويرتد مرعوباً، كما لو كان يتطلع الى جبال الارض وهي تنهار أمامه دفعة واحدة.

أكان ينظر الى داخله؟ أكان يستمتع بنزهةٍ في حديقةٍ داخلية، مسوّرة بما هو أكثر من الكآبة؟

كان الشاعر ينظر الى ما وراء الأفق، لكنه لم يكُن يرى شيئاً، ولكي يكتب سيلزمه أن ينظر الى داخلهِ، أن يطل الى الحديقة المخبّأة هناك، حيث ستنبثق بعد قليل صرخة مسموعة بوضوح.

حسناً كيف سيكتب الشاعر عن صرخةٍ بينما «الثابت انه كلما طالت الصرخة فقدت معناها»، كما يقول جورج حنين.

أحسّ الشاعرُ أنه غيرُ قادر على الامساك بموضوع ما، كل شيءٍ يفلتُ منه، في هذه اللحظة بالذات عند الانقلاب المفاجئ للنفَس تتحول ذاكرته الى ما يشبه الرماد، تذكر طفولته فوجدها بعيدة، أحس برجفة برد تسري في عظامه.

أيكتب عن الموت؟ فكر الشاعر، وقال:

لكي أكتب عن الموت ينبغي أن أحيا من جديد، الموت صيغة لتخيّل الزمن تحت تهديد مفاجئ من بعيد يسمع الشاعر كلام الأموات، كان الهواء يحمل كلام أصدقائه الموتى وينثره في اتجاهات أربعة، كان الكلام متقطعاً، حزيناً، ومشوشاً، شعر بالصدمة، وقال:

لن أفكَّ هذا السحر حتى أجد الزهرة في فم الأفعى، ثم تذكّر أن جلجامش مات منذ عصور سحيقة.

ظل الشاعر ينتظر اشارةً، دليلاً منقذاً في مفترق الطرق، قال الشاعر:

فشلتُ... فشلتُ بينما ايزابيل، تعلّم الحمام طرق الانتحار.

عصفت في ذهن الشاعر عاصفة قوية، وقال:

هبط الليل ولم أكتب شيئاً، لأعود الى بيتي، ربما لو كنت بين الجدران، سأحس بالنعومة، والهدوء، هناك أستطيع أن أصبح اسطورة ضائعة في الرمل، هناك سيرتطم رأسي بليل المسافات وأنا وحيد.

هناك أيضاً يمكنني أن أصرخ، وأفكر بالرائحة البيضاء التي تشبه روائح الموتى.

وسأكتب قصيدة عن الصرخة، لكنه وجد نفسه محاصراً، بالأفكار، وهو غير قادر على الكتابة. في زاوية الغرفة يقع سريره، المرتب بعناية فائقة، فكّر في المساحات البيضاء في الأوراق الموضوعة على الطاولة.

قال الشاعر: ينبغي أن أهدأ، ان وجودي في غرفةٍ كهذهِ أمر يبعث على القلق. لِمَ كنتُ أُتعب نفسي، ما كان ينبغي أن أبحث عن موضوعات للكتابة، لم لا أكتب عن الياسمين، عن الصبايا، بائعات الياسمين، ثم تذكر الشاعر أنه كان يشتري منذ زمن بعيد باقات الياسمين من الصبايا، الصغيرات هناك رغم انه لم يرَ شجرة ياسمين واحدة في المنطقة.

قال الشاعر:

هذا هو الشعر، من أين يأتي الياسمين اذن؟! فكر وتذكر البحر القريب من البستان.

في الثالثة ما بعد منتصف الليل استيقظ الشاعر، ووقف أمام النافذة صارخاً:

ايزابيل، ايزابيل، لقد وجدتُ موضوعاً، سأكتب عن بائعات الياسمين، وأرجوك مرة أخرى أن تكفّي عن محاولات الانتحار هذه.

ثم ذهب الى طاولته وبدأ يكتب من جديد.

back to top