التحوّل الديمقراطي والعدالة الاجتماعية

نشر في 18-11-2008
آخر تحديث 18-11-2008 | 00:00
 موفق نيربية إذا كانت الثورة الفرنسية الكبرى في البداية نقطة بارزة في التاريخ الإنساني، فإن سقوط الاتحاد السوفييتي و«فشل تطبيقات الاشتراكية» المرتبطة به نقطة بارزة أيضاً في النهاية، التي لن تُدرك وتكتمل.

تقلّص التعارض بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية نسبياً، وعادت الديمقراطية مطلباً لفئات أوسع من الأفراد والشعوب، وذلك من دون أن ننفي وضوح الحالة الأولى وكونها مثالاً أبسط، فقد كانت الطبقة المستهدفة آنذاك ممثّلة بالأرستقراطيين الإقطاعيين والمؤسسة الكنسية غير ذات لزوم في التحوّل الرأسمالي الحديث، وكانت الطبقة البرجوازية نفسها أكثر اجتهاداً وطليعية... وقيماً أيضاً، فلم يكن اشتراك الفلاحين والعمال والهامشيين مع البرجوازيين حالة مستهجنة، بل جمعت الجميع وحدة الخصم والمصلحة وحرارة التغيير وانتصار الفكر الحديث بشكلٍ طاغٍ لم تعد مقاومته ممكنة.

في حين أن سقوط الاتحاد السوفييتي قد أضعف فكرة إمكان التوصّل إلى ديمقراطية مبتكرة تؤمّن العدالة الاجتماعية من دون مواصفات الديمقراطية المعروفة، وانتقل كثير من الاشتراكيين إلى التسليم بمبدأ ألا شيء ممكن التحقيق إلاّ عن طريق صناديق الاقتراع وبقية المستلزمات الأساسية للديمقراطية. هذا المبدأ وتلك المستلزمات نشأت لاسيما حول تلك الأنظمة السائدة في الغرب.

وانتقل التأثير بقوة أخيراً إلى بقية العالم الانتقالي، الذي يُسمّى بالعالم الثالث، وهنا ساد شعور ممزوج من التوتّر والغضب واليتم عند السلطات السائدة، وشعور آخر ممزوج من الانتصار والحيرة والعجز الموروث عند القوى الطامحة إلى التغيير والتحديث.

كان يُفترض أن تكون عملية التغيير في منطقتنا أسهل من تلك التي مرت بها بلدان أميركية لاتينية وآسيوية وإفريقية، بعد انتهاء المُرتكز القوي في البلدان الاشتراكية السابقة، لكن الواقع لم يكن كذلك، رغم القرب والتلامس مع المركز. ربّما لأن التاريخ الطويل يؤسس للعجز وضعف المبادرة، وربما بسبب طبيعة العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا أو تداخلها بشكل خاطئ أو ضار أحياناً، أو ربّما لأن هنالك مشكلة بنيوية-فكرية أعقد مما هو في غير مكانٍ من العالم.

ما يعنينا هنا هو تأثير مفهوم العدالة الاجتماعية على قضية التحوّل الديمقراطي عملياً في بلادٍ كبلادنا، وبين قوى التغيير الافتراضية بالذات، فلعلّه من المريح أن تكون الفئة الأكثر شراسة من الناحية الاجتماعية-الاقتصادية «في سورية نموذجاً» هي تلك التي جمعت ثرواتها بالسلطة أو من خلالها أو بالمشاركة معها، وهي شريحة طفيلية لا تحمل من القيم ما يكفي للتسامح معها، ولا أثبتت استعدادها للتنازلات والتسويات، إضافة إلى اندماجها بالأدوات الأكثر عنفاً وقسوة في السلطة. تبدو كأنها بذاتها، وحتى الآن، نواة ليبرالية جديدة تأمل بالفتوحات أينما اتّجهت الأمور في المستقبل.

من الناحية الاقتصادية-الاجتماعية، لا يوجد تعارض بين قوى التغيير الافتراضية على أن هذه الشريحة في الجهة الأخرى من سياق التحول الديمقراطي، ومن ناحية أخرى، لم يكن للتحوّلات الديمقراطية في المجتمعات الغربية قديماً، ولا في تلك التي حصلت في بلدان العالم الثالث حديثاً، أن تتحقق إلاّ في غمار حركة شعبية واسعة، تطغى على النخبوية من دون الانعزال عنها والتناقض معها. هذه الحركة الشعبية تضمن وحدها للمواطن تحقيقَ أوضاعٍ معيشية واجتماعية أفضل.

لكن السؤال الأهم هنا هو: هل تعي الفئات المذكورة حاجتها إلى الحريات السياسية أيضاً؟ مستغربٌ أن يظهر من ينفي ذلك من غير المنتمين إلى حقل الاستبداد، الذين يمكن أن يقولوا بتبسيط مخادع: وماذا يهمّ الفقير غير خبزه أولاً وأخيراً؟ أو لن يهمّه القمع والاحتكار والحجر مادام يأكل ويشرب كفاف يومه! المسألة في أولوية الحرية السياسية أم العدالة الاجتماعية، لا بمعنى الأفضلية المجردة أبداً، بل في السياق التاريخي لعملية بناء الدولة الحديثة، في ذلك لم يكن هنالك قديماً من مشكلة، حتى لدى لينين نفسه قبل كهولته واستعجاله للتغيير، الكلّ يقرّ بضرورة الانتقال إلى الديمقراطية، أفضل ديمقراطية ممكنة، تضمن تحرير النضال من أجل تطوير العدالة الاجتماعية بالعمل السياسي، من دون تحرير العنف. ثمّ تأتي مسألة تحقيق الانتقال نفسه، اعتماداً على القوى المعنية نفسها، من خلال أوسع تحالف مرن الحدود ويستطيع دمج «كتلة تاريخية كبرى» في إطار هذه العملية، تتألف من جميع أصحاب المصلحة في التغيير. فعلامَ يمكن لمثل هذا التحالف أن يتأسس ولهذه الكتلة أن تظهر من الظلام؟ غير الاتّفاق على ما هو جامع للجميع مانع لاختلافهم؟. تلك هي قضية الانتهاء من الاستبداد والتحول التدريجي (الأسرع بقليل أو الأبطأ بقليل) إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، مع الاتفاق على معالمها الأساسية.

الأمر أشبه بالحبّة التي ينفخها المرء لتغدو قُبّة.

* كاتب سوري

back to top