حكايات

نشر في 03-05-2009
آخر تحديث 03-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان لكل عصر وجهه الحضاري ومنظومة قيمه التي يفرز بها ويفاضل ويقود ويوجه حركة المجتمع، وفي أزمنة الانحطاط والفوضى تنحط هذه القيم لتمنح القبح واللامبالاة والرداءة فرص الشيوع والهيمنة بينما ترقى هذه القيم في أزمنة الصعود الحضاري، وتتخذ من الدقة والحزم والنزاهة وسائل تعينها على الفرز وانتقاء وإعلاء شأن الجميل والجيد والمتميز في كل المجالات.

وفي كتابه الشهير «الأغاني» يورد أبو الفرج الأصفهاني حكاية طريفة عن ثلاثة من كبار المغنين في العصر العباسي هم: إسحق الموصلي ووالده إبراهيم وابن جامع، فقد طلب إسحق الشاب من والده إبراهيم أن يأخذه إلى ابن جامع قائلاً: «يموت هذا الشيخ غداً أو بعد غد ولم أسمعه فيقول الناس لي ماذا؟» ويحكي إسحق «فجئنا ابن جامع فدخل عليه أبي وأنا معه فقال: يا أبا القاسم قد جئتك في حاجة فإن شئت فاشتمني وإن شئت فاقذفني غير أنه لا بد لك من قضائها، هذا عبدك وابن أخيك إسحق قال لي كذا وكذا فجئت معه أسألك أن تُسعفه فيما سأل فقال نعم.. فأكلنا وشربنا ثم اندفع فغنّانا فنظرت إلى أبي يقلُّ في عيني ويعظُم ابن جامع حتى صار أبي كلاشيء، فلما طربنا غاية الطرب جاء رسول الخليفة الرشيد، فركبا وركبت معهما فلما كنا في بعض الطريق قال لي أبي «كيف رأيت ابن جامع؟ قلت أوتعفيني جعلت فداك؟ قال لا، قلت رأيتك يا أبي ولا شيء أكبر عندي منك قد صغرت في عيني في الغناء معه حتى صرت كلاشيء، ثم مضيا إلى الرشيد وانصرفت إلى منزلي فلما أصبحت أرسل إليّ أبي فقال: يا بني هذا الشتاء قد هجم عليك وأنت تحتاج فيه إلى معونة– وإذا مال عظيم بين يديه– فاصرف هذا المال في حوائجك فقبّلت يده ورأسه، ولما هممت بالانصراف قال لي أتدري لم وهبت لك هذا المال؟ قلت: نعم، قال لمَ؟ قلتُ لصدقي فيك وفي ابن جامع، قال صدقت يا بني».

وهي حكاية تضعنا أمام عظمة الموصليين الابن الذي ينحاز للأجمل والأرقى ويحكم لابن جامع على أبيه، والأب الذي يُقدر ابنه ويكافئه على صدقه ونزاهته الفنية والنقدية الجارحة والقاسية في الوقت نفسه.

تذكرت هذه الحكاية عندما تحدثت بعض صحفنا المصرية عن الفيلم السينمائي الذي يُنتج هذه الأيام عن مطرب زمننا الشعبي شعبان عبدالرحيم الذي رد على من سأله عن أسباب إنتاج هذا الفيلم بقوله «عشان أنا مشهور وزي محمد عبدالوهاب وثومة» هكذا وضع طيب القلب شعبولا نفسه إلى جوار موسيقار الأجيال وكوكب الشرق «خبط لزق ومن غير إحم ولا دستور» كما يقولون في القرى المصرية، وبوسعنا للأسف أن نمد كل الخطوط إلى مجالات الأدب والنقد والفن والشعر والاقتصاد والدين والسياسة والصحافة وغيرها لنجد في كل مجال شعبولا آخر منحته اللامبالاة والانحدار وتردي الذوق العام حق الحضور، وجواز المرور والإفتاء وإعلاء شأن الرداءة والفهلوة والإسفاف وإهانة الجميل والجليل والمفيد والجيد.

السطحية والتقليد والعشوائية والفجاجة سمات تميز معظم الأغاني والأفلام الشبابية، والكثير من النصوص الأدبية والبرامج الثقافية، وقد نجح إلحاح هذه السمات وتراكمها في السنوات الأخيرة في تقليص الوعي العام وتسطيحه وبناء جدار عازل بين المواطن والثقافة الجادة، وفي اختزال الولاء والانتماء، ومن المثير أن هذا الانحدار الثقافي والقيمي لم يعد مستوراً أو متوارياً، فبعض مراكز البحوث ترصد وتبحث وتحذر بتقارير يعدها باحثون مثقفون من خطورة هذا الانحدار، وتتحدث عن أسبابه التي أُرجع معظمها إلى انحسار فاعلية العدالة وتكافؤ الفرص، ومن ثم شيوع قيم النفاق والوصولية والفساد والانتهازية، وما نتج عن ذلك من تصعيد دائم للفاسدين والمنافقين والموالين للسلطة واللاموهوبين وغير المؤهلين على حساب الموهوبين والأكفاء.

في سنواته الأخيرة رصد محمد عبدالوهاب ذلك التحول الثقافي العام عندما قال «تم الإعلان عن وفاة شخص مهم جداً في الفن اسمه الجمهور الواعي»، وبسبب غياب هذا الجمهور سادت الفوضى ومن ثم تكبير الصغار وإلباسهم ملابس لا تخصهم، ولا يستطيعون العدو أو السير بها، وتم أيضاً الدفع بهم إلى الواجهة لكي يحاولوا اختزال الجغرافيا والتاريخ وتعميم الانحسار والإسفاف في معظم المجالات.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top