دردشة

نشر في 31-10-2008
آخر تحديث 31-10-2008 | 00:00
 محمد سليمان كان العقاد يزهو بالشعر ولا يُقدّر الرواية، ويعتبر الاحتفاء بها أو قراءتها إهداراً للوقت والجهد لا يليق بالجادين من المثقفين والمبدعين، وبوسعنا أن نلتمس العذر له، فقد كان بالإضافة إلى كتاباته في مجالات عديدة شاعراً حارب في شبابه تحت راية التجديد، لتحرير الشعر من التقليد والجمود والابتعاد عن العصر ومستجداته، وحارب في شيخوخته تحت راية المحافظة على القديم ومحاربة الجديد والمجددين.

وقد كانت الرواية العربية قبل أكثر من نصف قرن فناً جديداً في مرحلة التأسيس عاجزاً عن الإغواء، من ثم كان رأي العقاد مقبولاً ومُتوقعاً، لكن غير المُتوقع كان رأي القاص الكبير «يحيى حقي» صاحب «قنديل أم هاشم» والعديد من المجموعات القصصية، ومترجم العديد من الروايات، فهو يقول في مقدمة ترجمته لرواية «البلطة» للروائي الروماني ميخائيل سادوفيانو «كلما تقدم بي العمر نحو الشيخوخة قلّ إقبالي على قراءة الروايات، وكأن الحياة بعد أن قلّبتني على فراش التجارب تهمس لي: ما أقلّ الروايات التي أصابتك بالهزة الروحية التي تعهدها من قراءة بيت واحد من روائع الشعر كأنه عصارة الحكمة والتأسي لقدر الإنسان».

والعبارة الأخيرة تكشف لنا عن اهتمام يحيى حقي بشعر التأمل والتفلسف وانشغاله بالشعراء المفكرين، وشغفه في الستينيات برباعيات صلاح جاهين وتقديمه لها بدراسة طويلة قال فيها: «الرباعية تأسرك بجمالها الفاتن وبراعة لفظها ودقة معانيها وعمقها، والرباعيات هي أفضل القول للشاعر الفيلسوف الذي يريد أن يعرض علينا مذهبه في ومضات متألقة، وهذه الرباعيات هي صلاح جاهين».

مبدعون كثيرون ساروا على درب العقاد حتى أواخر السبعينيات واضعين الرواية في ذيل قائمة اهتماماتهم، لكنني كنت ومازلت أحد عشاق هذا الفن ربما لأنني وُلدت وعشت مراحل تكويني الأولى في الريف، وامتلأت بحكايات القرى الخرافية وبالسير الشعبية، وانبهرت بالحكائين وقدرتهم على هرس ليل القرى الطويل بحكايات وقصص محشوة بالسحر والغرابة، وربما لأن التراث العربي مُعبأ بالقصص والحكايات والنوادر الممتعة المسلية «بخلاء الجاحظ- أغاني الأصفهاني- كتابات المؤرخين وغيرهم» وربما لأنني اكتشفت مبكراً قدرة الرواية الجيدة على الإمتاع وشحذ الوعي كالشعر والفنون الأخرى، وأود هنا أن أشير إلى متعة تنفرد بها الرواية، وهى التسلية الرفيعة التي نجد بعضاً منها في روايات الواقعية السحرية، وفي بعض أعمال الروائيين المتميزين، وهذه التسلية هي في الواقع متعةٌ يسعى الفن كله من أجل تجسيدها، وهي نقيض التسلية الأخرى سيئة السمعة التي تسطّح الوعي وتكرس التفاهة وتقصي القارئ عن الجيد والمفيد والجاد.

والرواية أقدر من القصة أو القصة القصيرة على تجسيد هذه المتعة التي أظنها أحد أسباب رواج الرواية، ووضعها في صدارة المشهد الإبداعي عالمياً وعربياً في ربع القرن الأخير، ويؤكد ذلك الرواج حصول عدد كبير من الروائيين على جائزة نوبل، وإقبال ملايين القراء على قراءة الرواية، وذلك السيل الروائي الذي يجتاح حياتنا الإبداعية والذي رغم سلبياته العديدة يفتح باباً واسعاً للتجديد والتجريب والتمرد على الرواية التقليدية التي كانت تسعى برسالة محددة إلى القارئ «أخلاقية أو سياسية في الغالب» ليشكل رواية أخرى جديدة تعكس واقع التشظي والارتباك والتفكك واغتراب الذات وقلقها وهلامية الواقع الذي تعيشه وتسعى هذه الرواية كما يقول شكري الماضي في كتابه «أنماط الرواية العربية الجديدة» الذي أصدرته سلسلة عالم المعرفة في الفترة الأخيرة «إلى التأثير في القارئ عن طريق تقديم الحقائق النوعية الفنية بصورة مقنعة، وتجسيد مبدأ مهم من جماليات التلقي يتمثل في الإيهام بالواقعية، ومن ثم الاهتمام بالتفاصيل والجزيئات، أو تصوير نثريات الحياة التي تبدو دالةً داخل الإطار الفني للرواية».

وقد انطلقت موجة التطوير الأولى في أواخر الستينيات بعد حرب 1967، وقدمت روايات جيلي الستينيات والسبعينيات، وانطلقت الموجه الثانية بعد حرب 1991 لتقدم لنا عدداً كبيراً من الروائيين الشبان الذين اتجهوا بالرواية إلى أفُق تجريبي أوسع وأعمق وأكثر تحرراً من سطوة الآباء، ومن كل التقاليد الجمالية والمنظومات الفكرية والأيديولوجية، ومن ثم فإن رواياتهم لا تنطوي على رسائل محددة ولكنها «تثير قضايا جمالية وفلسفية جديرة بالتأمل والحوار» كما يقول الماضي في كتابه المشار إليه.

بسبب رواجها أغرت الرواية معظم الكُتّاب فانضم إلى كُتّابها بعض الشعراء والنقاد ومعظم كتاب القصة القصيرة، ومن ثم كان ذلك السيل الروائي الذي أشرت إليه، والذي يحمل بالإضافة إلى التجارب الجادة والمتميزة الكثير من الغثاء والفوضى.

* كاتب وشاعر مصري

back to top