انسحاب


نشر في 31-05-2009
آخر تحديث 31-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان اختفى القطن المصري من معظم الحقول في الأعوام الأخيرة، ونسي الناسُ فى القرى شكل شجيراته ولوزه الذي كان ينشق في أواخر شهر أغسطس لكي يقذف ذلك البياض الذي كان يُبهج الجميع ويمنح الحقول، خصوصاً فى الليل، مشهداً فريداً عندما تبدو مضاءة بملايين وملايين الشموع. ثلاثة محاصيل رئيسية شاركت فى زراعتها ورعايتها في طفولتي وصباي: «القمح والذرة لإعداد وتخزين قوت العام، والقطن الذي كان بلا منازع بوابة للرخاء ومكافأة آخر العام والمسؤول عن الكساء وتدبير مهور العرائس وتكاليف أداء فريضة الحج ومصاريف التعليم الجامعي والإقامة في القاهرة أو الإسكندرية قبل ظهور الجامعات الإقليمية.

كان والدي يمنحني بعد جني قطننا وبيعه في منتصف الستينيات كل مصاريف العام الجامعي والإقامة في القاهرة دفعة واحدة، وهو يقول: لا نقود أخرى حتى نهاية العام الدراسي، وعليك أن تكون جاداً ومقتصداً وقادراً على تدبير أمورك كيلا تجوع هناك، ولم تكن نصائحه دائماً مجدية، فقد كنت بعد شهور قليلة أرسل الاستغاثات والتحذيرات ونداءات الاستعطاف بعد إهدار معظم النقود على شراء الكتب والدواوين ومتابعة الجديد فى عالم السينما ومحاولة اكتشاف عالم المدينة.

قبل عقود كان القطن سلاح المزارع وذهبه ومحط آماله وإحدى دعائم الاقتصاد المصري، من أجله ظهر «معهد القطن» والتحق به بعض زملائي في الستينيات لكي يصبحوا خبراء في زراعته ورعايته وتصنيعه وتسويقه، وبسببه ظهرت ألقاب العديد من الأسر والعائلات كالغزّال والقطّان والنسّاج والحلاج وغيرها. وكان رغم الجهد المبذول في زراعته ورعايته ومقاومة الآفات التي تهاجمه يكافئنا في النهاية... فيكسو ويزوِّج ويُعلِّم ويسدد الديون. وظل سيداً للحقول وباباً للرخاء منذ عصر محمد علي حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي ثم انحسر عصره الذهبي الطويل وسقطت هيبته وظل يتراجع وينسحب من الحقول حتى صار في الأعوام الأخيرة شبحاً لا يُسمح له سوى بعُشر المساحة التي كان يفوز بها في الخمسينيات والستينيات. ورغم هذا الانسحاب الكبير تواصل كساد المحصول عاماً بعد آخر وانهارت أسعاره وتواصل ركود المنتجات المصنعة وتراكمها في مخازن الشركات والمصانع، وكأن الناس قد أقلعوا عن ارتداء الملابس أو عسكروا في منازلهم، مكتفين بما لديهم ومنتظرين مرور الصينيين بحقائبهم المحشوة بملابس صينية أرخص وأردأ!

كان من الطبيعي أن تتعاظم خسائر الشركات وترتفع راية الخصخصة وتنطلق موجات الاحتجاجات والاعتصامات والاضرابات، هذا التردي المتواصل سببه التخلف واللامبالاة وإهمال التحديث ودراسة المتغيرات المؤثرة على الأسواق لتعظيم القدرة على المنافسة وإهمال تدريب العمال وإعادة تأهيلهم، الأمر الذي أجبر بعض الشركات على استقدام 150 ألفاً من العمال الهنود المهرة للعمل في المصانع.

قبل أكثر من ربع قرن تحدث كبار المسؤولين في وزارة الزراعة المصرية عن المحاصيل التقليدية، وفي مقدمتها القطن والقمح، التي نزرعها رغم تدني عائدها الاقتصادي وقارنوا زارع القمح بزارع الفراولة الأذكى ونصحوا الناس بزراعة الفاكهة والخضروات والزهور وتصديرها إلى الخارج وشراء القمح الأرخص ببعض عوائد التصدير ونسوا أهمية الكساء والغذاء ومكانة رغيف الخبز على مائدة المصريين.

وقد فتحت هذه السياسات الباب لانسحاب القطن من الحقول وتدهور صناعة النسيج المصرية كما ساهمت فى اعتمادنا المتزايد على القمح المستورد، وأشير هنا الى ما نشرته جريدة «الأهالي» المصرية الصادرة في 27 مايو وقد جاء فيها «أكد الخبراء أن السياسات الزراعية منذ سنوات تؤدي إلى القضاء على الزراعة خاصة المحاصيل الاستراتيجية... فكل عام تقل المساحة المزروعة قمحاً بسبب ارتفاع التكلفة وعدم تحقيق أرباح من زراعته، فالرقعة الزراعية في تناقص مستمر ونحن بحاجة إلى سياسة زراعية تساعد على زيادة المنتج... لماذا لا ندعم الفلاح المصرى ونشجعه على زراعة القمح؟».

إنه السيناريو ذاته الذي أجبر القطن على الانسحاب من الحقول وإفساح المجال للزهور والفاكهة والاعتماد على قمح الخارج الذي قد لا نجده أو نجبر على شرائه بكل ما لدينا.

* كاتب وشاعر مصري 

back to top