مارسيل الهولندي... والبدوي الأخير 1
اتفقنا على اللقاء وقت صلاة العصر تقريبا. وعند صوامع الحبوب على الطريق الى أبها واليمن انحرفت يمينا باتجاه كثبان الرمل. على بعد مسافة من الطريق كانت تقف شاحنة المرسيدس مع خزان الماء والخيمة ومئة من الجمال الداكنة يملكها عطران، انجح مربي الابل في قبيلة الدواسر وهناك، وسط الحقل حيث كانت الدواب تأكل التبن المتبقي بعد الحصاد، وجدت الرجل الذي سافرت من اجله حوالي الف كيلو متر جنوبا من الرياض، الدندان وهو واحد من آخر الحلقات في سلسلة الشعراء الاميين الجوالين المهددين الآن بالانقراض، بعدما غنوا للحياة في الصحراء منذ 1500 سنة او اكثر.الشيخ الذي جلست بجانبه على حقل التبن لتسجيل قصائده للاجيال القادمة، لم يوح بكونه محاربا هماما. فهو، بشعره الاشيب ونظارتيه ذواتي الاطار العظمي كان اقرب الى الجد الوديع، شارد الذهن قليلا. وبلا اي تردد في صوته الاجش، القى الشاعر الأمي ما نظمه في حياته الشعرية: مئات ومئات من الابيات التي ترسم صورة ازلية تكاد تكون ساكنة للاحداث المتكررة دوريا في حياة البدو. وصف بأدق التفاصيل جِماله الحبيبة والتحول الذي تمر به الصحراء بعد هطول المطر ومفاتن النساء اللواتي عشقهن عن بعد، وخاصة الجبال التي كان يتسلقها كلما شعر بأن ربة الوحي نشرت جناحيها حوله باحثا عن العزلة لصوغ الابيات التي كانت تتصاعد داخله في وزن وقافية.
حولنا، كانت جِمال عطران مربي الابل، تغثو باحثة عما تأكله اجسامها السمراء كانت تلقي ظلالا غريبة على الحقل نظرة الدندان كانت تهيم بين حين وآخر باحثة عن الخطوط المتموجة لكثبان الرمل التي تتوهج حمراء في شمس الاصيل. كان من الواضح ان افكاره في مكان آخر ولكن الابيات استمرت في التدفق بايقاع متواصل:شايبٍ والقلب يرجي في البذارةوده انه يرجع اللي كان فاتيولّ يا قلبٍ تزايد في عبارهوان نهيته ما حصل عنده ثباتيغاصبه بالعقل والا انه خبارهناصحه دون الخطأ بالمقدياتيبكرتي خبّي عساك الله مجارهجارك الله ما يجي رجلك حفاتيالعبي للجري في حامي قرارهلعب غرثان البني المترفاتيلعب رسمة يومها في البيض شارةفرقها جورٍ على شقح البناتيعينها عين اسمر حقق مطارهفي طويلات الرجوم النايفاتيداملٍ صافي عفاره بالصفارةوالجدايل لا الردوف منقّضاتيوالمناكب مثل ممطور الزبارةوالنهود من الجبين مزبّراتيوالردايف مثل شط في حوارةبين ظيرينٍ عليها مهملاتيحقها جهالك ان العلم شارةترتحل للزين شيخات البناتيعند منعورٍ صبورٍ بالخسارةوالذرب منه العلوم الطيباتيغاصت الشمس تحت الافق. الجمال تغثو وعطران وذراعاه مكسوتان بالنخالة بعدما اطعم الدواب علفها، تقدم نحونا وقال، «لا اله الا الله» مستهجنا لان تحول الابيات الماجنة التي واصل الدندان القاءها الى دعاءات لم يفته. وكان يقصد بالشهادة ان وقت الصلاة قد حان. تناول الشاعر عصاه ورفع نفسه بصعوبة بالغة وجر قدميه بخطى متثاقلة الى خزان الماء من اجل الوضوء.الدندان هو الاسم الفني الذي اطلقه على الشاعر افراد قبيلته. والكلمة مشتقة من الدندنة بجرس موسيقي. الابيات تكاد تكون ملموسة عنده، وهي تأتيه خافقة اجنحتها من كل حدب وصوب، وتغطي قلبه كأسراب الجراد الذي يحط على شجرة في المساء. ونظْمُ الشعر عنده فعل لا ارادي. الدندان لا يستطيع ان يغير ابياته حتى اذا اراد.عبدالله، الذي نشر جزءا من عمل الدندان، اختار الابيات حسب مشيئته هو واسقط مقاطع كاملة واستعاض عن اسماء الاشخاص او الكلمات البذئية بنقاط -كل ذلك بنية تمييع كل ما يمكن ان يجرح مشاعر المسلمين الورعين والحكومة، او تشذيبه، او الحكم عليه بالنسيان- وعلى سبيل المثال، هناك في احدى القصائد ثمانية ابيات مفقودة يرتجف لها افراد قبيلته في رهبة مقدسة. فعملا باعراف دائرة الشعر الشفهي تلقى الدندان بواسطة نديب قصيدة من اقرب غرمائه الذي كان شاعرا ضريرا تبعد خيمته 300 كيلومتر شمالا. وفي هذه الابيات يصف هذا المدعي عرش الشعر المحلي، قصائده بأنها حصن منيع. واذا استبد الغضب بالدندان على هذه المحاولة الانقلابية في مملكة الشعر، اعاد له هذه الابيات:انا هاض ما بي اعوذ بالله من الشيطانافصّل على شفّي بكيفي ولا فيّة لفانا الكلام وشفت انا الحال مني شانقضى ما خذى حالي من الطيب مثنيةعِزي لمن هو كل يومٍ وهو في شانكثير الحثايم لا بدى له شفى نيةفيا مِلّ قلبٍ حل فيه الدبى الحنّانجثيله على قلبي تعاقب معاشيةيالله ياللي كل ما راد بأمرٍ كانالنّك تعاونّي ليا جاز لي نيةانا وين ادور لي مع ذا اللسان لسانيعاون لساني لا يبين الخلل فيّةانا بأحمد الله يوم جالي على مازانتهيض العبار اللي من العام مكْنيةتفهمت في قافٍ ومرنى به الرحمنتلاحت مزاميره وغارت مراكيةطرأ لي جميع اللي يطرّى وهو ما كانليا فاح صدري مثل فوح الحساويةكليت السما وارضه ولا وقّت اللحيانمع العرش كله ما يجي لقمةٍ ليةسحنت الجبال دواً ولا تكحل البرمانوجميع الشجر ما ميّل العين هذيةكليت القمر والشمس وامسيت انا جوعانولا عاد به شنّ آكله عزّتا ليةكليت السنين وكاسرٍ بيرق الشيطانوشربت الهبايب والجنون سجدت ليةلبست النهار ثويب خامٍ على الامتانوسواد الليالي لي بشوتٍ شماليةوجمعت النجوم ونيّة الخبث للعدوانعلى شان ابيهم يسكنون الحراميةوتراني دخيل الله ولي عظيم الشانوباقي الخلايق ما لهم عندي دعيّةاما الباقي فوصف طويل للبعير الذي سيمتطيه مبعوث لنقل هذه الرسالة الى الغريم. ولكن نصل القصيدة المسموم يكمن في مدخلها. وبالمعايير السعودية يكون الدندان تجاوز الحد المقبول بهذه المبالغات. ودفع الدندان ثمن كبريائه وتشبيهاته البلاغية ساقا معطوبة، او هكذا تقول الاسطورة الشعبية على الارجح. فقبل ست سنوات اصيب بالتهاب المفاصل، ومنذ ذلك الحين يتعين عليه ان يستعين بعصاه وسيارة بك اب من طراز تويوتا اضحت، بعد اصطدامات لا عد لها بالحواجز في الصحراء بمثابة طعجة كبيرة واحدة.* منقولة بتصرف من كتاب البدوي الأخير للهولندي مارسيل كوربر شوك - ترجمة عبدالإله النعيمي - «دار الساقي»