مارسيل الهولندي... والبدوي الأخير 1

نشر في 01-08-2008 | 00:00
آخر تحديث 01-08-2008 | 00:00
No Image Caption
اتفقنا على اللقاء وقت صلاة العصر تقريبا. وعند صوامع الحبوب على الطريق الى أبها واليمن انحرفت يمينا باتجاه كثبان الرمل. على بعد مسافة من الطريق كانت تقف شاحنة المرسيدس مع خزان الماء والخيمة ومئة من الجمال الداكنة يملكها عطران، انجح مربي الابل في قبيلة الدواسر وهناك، وسط الحقل حيث كانت الدواب تأكل التبن المتبقي بعد الحصاد، وجدت الرجل الذي سافرت من اجله حوالي الف كيلو متر جنوبا من الرياض، الدندان وهو واحد من آخر الحلقات في سلسلة الشعراء الاميين الجوالين المهددين الآن بالانقراض، بعدما غنوا للحياة في الصحراء منذ 1500 سنة او اكثر.

الشيخ الذي جلست بجانبه على حقل التبن لتسجيل قصائده للاجيال القادمة، لم يوح بكونه محاربا هماما. فهو، بشعره الاشيب ونظارتيه ذواتي الاطار العظمي كان اقرب الى الجد الوديع، شارد الذهن قليلا. وبلا اي تردد في صوته الاجش، القى الشاعر الأمي ما نظمه في حياته الشعرية: مئات ومئات من الابيات التي ترسم صورة ازلية تكاد تكون ساكنة للاحداث المتكررة دوريا في حياة البدو. وصف بأدق التفاصيل جِماله الحبيبة والتحول الذي تمر به الصحراء بعد هطول المطر ومفاتن النساء اللواتي عشقهن عن بعد، وخاصة الجبال التي كان يتسلقها كلما شعر بأن ربة الوحي نشرت جناحيها حوله باحثا عن العزلة لصوغ الابيات التي كانت تتصاعد داخله في وزن وقافية.

حولنا، كانت جِمال عطران مربي الابل، تغثو باحثة عما تأكله اجسامها السمراء كانت تلقي ظلالا غريبة على الحقل نظرة الدندان كانت تهيم بين حين وآخر باحثة عن الخطوط المتموجة لكثبان الرمل التي تتوهج حمراء في شمس الاصيل. كان من الواضح ان افكاره في مكان آخر ولكن الابيات استمرت في التدفق بايقاع متواصل:

شايبٍ والقلب يرجي في البذارة

وده انه يرجع اللي كان فاتي

ولّ يا قلبٍ تزايد في عباره

وان نهيته ما حصل عنده ثباتي

غاصبه بالعقل والا انه خباره

ناصحه دون الخطأ بالمقدياتي

بكرتي خبّي عساك الله مجاره

جارك الله ما يجي رجلك حفاتي

العبي للجري في حامي قراره

لعب غرثان البني المترفاتي

لعب رسمة يومها في البيض شارة

فرقها جورٍ على شقح البناتي

عينها عين اسمر حقق مطاره

في طويلات الرجوم النايفاتي

داملٍ صافي عفاره بالصفارة

والجدايل لا الردوف منقّضاتي

والمناكب مثل ممطور الزبارة

والنهود من الجبين مزبّراتي

والردايف مثل شط في حوارة

بين ظيرينٍ عليها مهملاتي

حقها جهالك ان العلم شارة

ترتحل للزين شيخات البناتي

عند منعورٍ صبورٍ بالخسارة

والذرب منه العلوم الطيباتي

غاصت الشمس تحت الافق. الجمال تغثو وعطران وذراعاه مكسوتان بالنخالة بعدما اطعم الدواب علفها، تقدم نحونا وقال، «لا اله الا الله» مستهجنا لان تحول الابيات الماجنة التي واصل الدندان القاءها الى دعاءات لم يفته. وكان يقصد بالشهادة ان وقت الصلاة قد حان. تناول الشاعر عصاه ورفع نفسه بصعوبة بالغة وجر قدميه بخطى متثاقلة الى خزان الماء من اجل الوضوء.

الدندان هو الاسم الفني الذي اطلقه على الشاعر افراد قبيلته. والكلمة مشتقة من الدندنة بجرس موسيقي. الابيات تكاد تكون ملموسة عنده، وهي تأتيه خافقة اجنحتها من كل حدب وصوب، وتغطي قلبه كأسراب الجراد الذي يحط على شجرة في المساء. ونظْمُ الشعر عنده فعل لا ارادي. الدندان لا يستطيع ان يغير ابياته حتى اذا اراد.

عبدالله، الذي نشر جزءا من عمل الدندان، اختار الابيات حسب مشيئته هو واسقط مقاطع كاملة واستعاض عن اسماء الاشخاص او الكلمات البذئية بنقاط -كل ذلك بنية تمييع كل ما يمكن ان يجرح مشاعر المسلمين الورعين والحكومة، او تشذيبه، او الحكم عليه بالنسيان- وعلى سبيل المثال، هناك في احدى القصائد ثمانية ابيات مفقودة يرتجف لها افراد قبيلته في رهبة مقدسة. فعملا باعراف دائرة الشعر الشفهي تلقى الدندان بواسطة نديب قصيدة من اقرب غرمائه الذي كان شاعرا ضريرا تبعد خيمته 300 كيلومتر شمالا. وفي هذه الابيات يصف هذا المدعي عرش الشعر المحلي، قصائده بأنها حصن منيع. واذا استبد الغضب بالدندان على هذه المحاولة الانقلابية في مملكة الشعر، اعاد له هذه الابيات:

انا هاض ما بي اعوذ بالله من الشيطان

افصّل على شفّي بكيفي ولا فيّة

لفانا الكلام وشفت انا الحال مني شان

قضى ما خذى حالي من الطيب مثنية

عِزي لمن هو كل يومٍ وهو في شان

كثير الحثايم لا بدى له شفى نية

فيا مِلّ قلبٍ حل فيه الدبى الحنّان

جثيله على قلبي تعاقب معاشية

يالله ياللي كل ما راد بأمرٍ كان

النّك تعاونّي ليا جاز لي نية

انا وين ادور لي مع ذا اللسان لسان

يعاون لساني لا يبين الخلل فيّة

انا بأحمد الله يوم جالي على مازان

تهيض العبار اللي من العام مكْنية

تفهمت في قافٍ ومرنى به الرحمن

تلاحت مزاميره وغارت مراكية

طرأ لي جميع اللي يطرّى وهو ما كان

ليا فاح صدري مثل فوح الحساوية

كليت السما وارضه ولا وقّت اللحيان

مع العرش كله ما يجي لقمةٍ لية

سحنت الجبال دواً ولا تكحل البرمان

وجميع الشجر ما ميّل العين هذية

كليت القمر والشمس وامسيت انا جوعان

ولا عاد به شنّ آكله عزّتا لية

كليت السنين وكاسرٍ بيرق الشيطان

وشربت الهبايب والجنون سجدت لية

لبست النهار ثويب خامٍ على الامتان

وسواد الليالي لي بشوتٍ شمالية

وجمعت النجوم ونيّة الخبث للعدوان

على شان ابيهم يسكنون الحرامية

وتراني دخيل الله ولي عظيم الشان

وباقي الخلايق ما لهم عندي دعيّة

اما الباقي فوصف طويل للبعير الذي سيمتطيه مبعوث لنقل هذه الرسالة الى الغريم. ولكن نصل القصيدة المسموم يكمن في مدخلها. وبالمعايير السعودية يكون الدندان تجاوز الحد المقبول بهذه المبالغات. ودفع الدندان ثمن كبريائه وتشبيهاته البلاغية ساقا معطوبة، او هكذا تقول الاسطورة الشعبية على الارجح. فقبل ست سنوات اصيب بالتهاب المفاصل، ومنذ ذلك الحين يتعين عليه ان يستعين بعصاه وسيارة بك اب من طراز تويوتا اضحت، بعد اصطدامات لا عد لها بالحواجز في الصحراء بمثابة طعجة كبيرة واحدة.

* منقولة بتصرف من كتاب البدوي الأخير للهولندي مارسيل كوربر شوك - ترجمة عبدالإله النعيمي - «دار الساقي»

back to top