العرب وتركيا و الصور النمطية (1- 2)

نشر في 05-12-2008
آخر تحديث 05-12-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد يعاني العرب وطأة «الصور النمطية» السائدة في الغرب عنهم وعن حضاراتهم وعاداتهم وثقافتهم كما لا تعاني أي مجموعة ثقافية وحضارية أخرى في العالم، ولكنهم للمفارقة يتبنون- من حيث لا يحتسبون- صوراً نمطية بحق أقوام أخرى، حتى إن لم تكن «صورهم النمطية» عنصرية أو معادية جذرياً للآخر مثلما هي حالهم في الغرب.

تأتي تركيا من ضمن الأقوام والحضارات التي تختزلها المخيلة العربية في ثنائية «خير» و«شر» أو «مع» و«ضد»، وهي الجار الجغرافي ذو الثقل التاريخي والحضاري الكبير. وتترافق الصور النمطية العربية مع عودة تركيا لتصبح من جديد لاعباً فاعلاً في الشرق الأوسط بعد غياب طال عقوداً من الزمن، ومرد ذلك أن التفاعل التركي الراهن مع قضايا المنطقة يبدو أمراً تحتمه المصالح الوطنية التركية. صحيح أن العقود التي غابتها تركيا عن تفاعلات المنطقة تعد فترة طويلة نسبياً، إلا أن «المنظار الإيديولوجي» الذي استعملته النخبة العربية والتيارات السياسية العربية، من اليسار إلى اليمين، حالا دون الرؤية الصحيحة لهذا البلد الكبير والعريق والمؤثر في تاريخ المنطقة. ارتكنت شرائح كبيرة من النخبة العربية ذات الميول القومية واليسارية، لعقود خلت من الزمان، على «الصور النمطية» في تقييمها للأحداث والظواهر، فدمغت أغلبية هذه النخبة تركيا بالتبعية لطرف دولي بالقياس إلى تجربة الحرب الباردة، وانضمام تركيا إلى حلف السنتو (تركيا، إيران، باكستان...) ومن بعده حلف الناتو. أما مؤيدو الإسلام السياسي فراحوا يصنعون «صورة نمطية» أخرى حين نعوا على الجمهورية التركية أنها كرست سقوط دولة الخلافة الإسلامية، وقامت على أنقاضها، مما يعني- بالمنطق الضمني للأحكام المسبقة- أن الجمهورية التركية بنيت على «جريمة تاريخية». وفات هؤلاء أن الجمهورية التركية كانت إنجازا تاريخياً أنقذ ما يمكن إنقاذه من إمبراطورية تفككت بالفعل قبل سنوات من قيام الجمهورية، أطلق عليها الغرب «الرجل المريض» وحكم عليها بالموت، حتى أن الآستانة مقر الخلافة تم احتلالها فضلاً عن أجزاء كبيرة من تركيا الحالية، قبل أن يسترد العسكريون الأتراك من رفاق مصطفى كمال ما تبقى من الأراضي التركية من أيدي قوات الاحتلال الإنكليزي والإيطالي وحتى اليوناني التي جثمت على الخريطة التركية قبل قيام الدولة.

دفع الأتراك والمجتمع التركي ثمناً غالياً للاختيار المصيري في تاريخهم الحديث والمتمثل في تأسيس الجمهورية وحسم خيار الالتحاق بالغرب وتبني قيم العلمانية؛ ولكن وبعد مرور ثمانية عقود ونصف من إعلان الجمهورية التركية يبدو التدقيق المنصف في نتيجة ما جرى لمصلحة تركيا ولمصلحة اختيارها الأساسي. صحيح أن العلمانية في تركيا تأخذ طابعاً متشدداً في أحيان كثيرة، بل تبدو بفعل غلاة العلمانية ديناً جديداً في أحيان أخرى، ولكن بالرغم من ذلك فإن من ينعي على تركيا اختيارها العلماني – برغم كل مثالبه- لا يسعه إلا أن يلحظ، في الوقت ذاته، أن عملية التناوب على السلطة والسماح لحزب ذي مرجعية إسلامية مدنية أن يتولى الحكم في تركيا، هي الثمرة الطبيعية الإيجابية لهذه العلمانية التي تسمح بحدوث ذلك. يكفي نظرة إلى التقدم الكبير الذي حققته تركيا سياسياً واقتصادياً في مقابل التراجع الأكبر لدى الدول العربية من جيرانها. وإن كان الصراع العربي الإسرائيلي قد لعب دوره الحاسم في تأخير عجلة تنمية الاقتصاد والسياسة والمجتمع في الدول العربية، إلا أن ذلك وحده لا يكفي سبباً لتبرير الفجوة الكبيرة التي تفصل تركيا عن الدول العربية، والفجوة التي تفصل تركيا عن إيران. السبب الأساسي يكمن في التضحيات الكبيرة التي قدمها ملايين الأتراك في مطارح عيشهم الأوروبية في المهاجر، وفي المزارع بالأناضول شرق تركيا، كما في المصانع بالغرب التركي تلك التي تورد منتجاتها بأسعار زهيدة للغرب الصناعي حتى تلتحق تركيا في النهاية بدورة رأس المال العالمي. بالعرق والدم والدموع حجزت تركيا لنفسها مكاناً بين الأمم، فهي الآن الاقتصاد رقم 17 في العالم قبل كل الدول العربية، وقبل إيران، وحتى قبل «إسرائيل» الموقع المتقدم للغرب في المنطقة. هذه التضحيات وهذه الإنجازات تستحق من المنصفين كل الاحترام، وهي جديرة بأن تجعلنا ننظر إلى تركيا نظرة أكثر موضوعية لنرى الواقع كما هو، وليس كما نريد نحن أن نراه. أكثر ما في «الصور النمطية» فداحة أنها تخلق ستاراً صفيقاً ومتخيلاً من التصورات التي لا تتطابق مع الواقع، فتعطل بالنهاية جسور التواصل، وتعمق عدم الفهم المتبادل بين الطرفين الجارين.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية

والاستراتيجية - القاهرة.

back to top