الحرب

نشر في 11-01-2009
آخر تحديث 11-01-2009 | 00:00
 محمد سليمان ولدت الحرب مع الإنسان بسبب غريزة البقاء وسعيه إلى ترسيخ وجوده ومقاومة كل ما يهدد ذلك الوجود. فحارب من أجل الماء والطعام والأرض والمراعي وانتصر وانكسر، لكن الحرب ظلت إحدى ضرورات وجوده ومجالا لزهوه وشجاعته وقدرته على مقاومة عوامل الفناء.

«الحرب كانت منزلا ولدت فيه

والدخان أثوابي

خسائري لم أحصها

لأنني لا أحسن العد ولاأزال مثل علبة معبأ بها»...

ولأن القوة بكل أشكالها كانت ومازالت وسيلة الفوز والكسب والانتصار في المعارك، سعت الأمم والشعوب والأفراد إلى اقتناء الأسلحة واختراعها وتحديثها، وأنفق العالم في مجال صناعة وتجارة السلاح مالاً كان بعضه قادرا على إنهاء المجاعات وتقليص الفقر والبؤس ومعاناة ما يقرب من نصف سكانه. ومن المؤلم أن نرى دولاً رغم فقرها وتخلفها وقلة مواردها توجه الجزء الأكبر من هذه الموارد إلى اقتناء أو اختراع الأسلحة الأقوى والأقدر على الفتك والتدمير لكي تتمكن من الدفاع عن نفسها أو ردع أعدائها. ومازلت حتى الآن أتذكر عبارة انزرعت في الذاكرة منذ أربعة عقود أو أكثر لبطل أحد أفلام الغرب الأميركي التي كنت مولعا بها في صباي وهي «إذا التقى رجلان أحدهما يحمل مسدسا والآخر بندقية، فإن حامل المسدس هالك لا محالة»، وهي عبارة تمجد السلاح الأقوى والأبعد مدى الذي اخترعه الأوروبيون وطوروه واستطاعوا به غزو واستعمار معظم دول العالم.

والحديث عن الحرب يشدنا إلى الحديث عن نقيضها أي السلام الذي يحلم به الجميع ويقدسونه ويكتبون عنه القصص والقصائد والأناشيد، لكنهم يضعونه في المرتبة الأدنى باعتباره مجرد حلم وواقع هش واستراحة بين حربين... ويتخذون الحمام رمزاً له بينما يجَمِّلون أعلامَهم بصور الوحوش والجوارح «الصقور- النسور- الأسود- الفهود وغيرها» كرمز للقوة والتوحش وإرهاب الآخرين.

«رمزنا للسلام وللحب هذا الحمامْ

رمزنا.. والدليل ورايات أحلامنا

وللحرب صقر يقاتل مستبسلا

حين يعلو.. وحين يحط

وحين على غيمة يختفي أو ينامْ

من ترى يأكل الصقر يا صاحبي؟

والحمام طعام لمن طار أو سار

أو دار مثل دم في الظلامْ»...

وهشاشة السلام سببها؛ نسبيته، والإجبار عليه أحياناً، وتحوله إلى استسلام يفرضه الغالب، واختلال موازين القوى بين الأطراف المتصارعة... ومن ثم استحالة الوصول إلى سلام عادل وحقيقي. فالعدل كان ومازال لسانا للقوة يجبر ويُملي، لذلك فمعظم معاهدات السلام هي في الواقع معاهدات استسلام يوقعها الطرف الأضعف مجبرا، وهو يضمر الانقلاب عليها عندما تتبدل موازين القوة لمصلحته كي تظل الحرب المعلنة أو المضمرة هي قدر الإنسان وأحد محاور وجوده وهّماً يعايش الكتاب والفلاسفة والمبدعين في كل المجالات.

في الماضي كان الناس يعرفون أخبار الحروب وأحداثها وبطولاتها من الشعراء والحكائين والمؤرخين ورواة السير الشعبية، ثم قامت الصحف والإذاعات بهذا الدور في العصر الحديث. وفي الأعوام الأخيرة أحدثت ثورة الاتصالات والسماوات المفتوحة انقلاباً مذهلاً أبرز سلطة الصورة والبث المباشر وهيمنة الفضائيات التي تنقل ما يحدث في ساحات القتال مباشرة إلى المشاهدين في المنازل ليروا بأعينهم بشاعة الحرب وحجم التخريب والتدمير وصور الضحايا، خصوصا الأطفال والنساء. وأحدث هذا الانقلاب انقلاباً آخر مؤثراً وقادراً على تغيير صورة الصراع ونتائجه عندما أضاف إلى الطرفين المتحاربين طرفا ثالثاً هو الرأي العام العالمي الذي يراقب ويتابع ويستفزه حجم التخريب والتدمير وصور جثث وأشلاء الضحايا، فيدفع الناس بالملايين أحياناً إلى شوارع المدن المختلفة لكي يحتجوا بكل اللغات ويتظاهروا معلنين عن ثورتهم وغضبهم وانحيازهم إلى الطرف الأضعف ليجبروا حكوماتهم والمؤسسات الدولية على التحرك لمساندة الضعيف وإنهاء الصراع.

لكن هذا التحول رغم أهميته وقدرته على التأثير والحسم أحيانا، لن يضع حدا للحروب والصراعات ولن يعمم السلام ربما لأن المصالح هي عقل السياسة وقلبها والقوة مازالت حتى الآن أقصر الطرق لتحقيق هذه المصالح.

* كاتب وشاعر مصري

back to top