عقيدة الاستعادة الإمبراطورية

نشر في 27-07-2008
آخر تحديث 27-07-2008 | 00:00
 د. محمد السيد سعيد ليس هناك تأريخ دقيق لمصطلح «الاستعادة» في المجال السياسي. ولكنه اشتهر ودخل حيز الأدب والتاريخ السياسي الحديث مع استعادة آل البوربون للحكم في فرنسا بعد هزيمة نابليون، وسُميت الفترة ما بين الهزيمة عام 1815 وثورة 1830 «عصر الاستعادة».

ولكن المصطلح لا يتعلق بالحكم وحده. ففي التاريخ الغربي نفسه انصرفت محاولات تأسيس أو تأصيل الحضارة الرأسمالية إلى «استعادة العصر الكلاسيكي» اليوناني في النموذج الأوروبي والروماني في النموذج الأميركي. ولماذا نذهب بعيداً ولدينا محاولات دائبة لاستعادة فهم أو آخر للنظام السياسي «الشرعي» في الحضارة العربية الإسلامية.

غير أن ما يهمنا هنا واليوم، هي عقيدة الاستعادة النشطة قبل أن يصبح الواقع تاريخاً، يهمنا مثلاً استعادة «عقيدة» الدولة القائد أو ببساطة القطبية الواحدية، غير أن استعادة صورة الزعيم القائد أو الفرد صارت أيضا صناعة منظمة وذات سلطات كبيرة في سياق صراع جبار بشأن مفاتيح المستقبل في العالم العربي.

* أسطورة القطبية الواحدية

الأميركيون مشغولون اليوم بإنقاذ أسطورة أو واقع الدولة المهيمنة أو القطب الوحيد بعد أن صار الحديث عن تعدد القوى أو حتى تعدد الأقطاب، هو الحكمة الرسمية في دراسة العلاقات الدولية.

بدأ التشكك في قدرة الولايات المتحدة على الاحتفاظ بالهيمنة الانفرادية على النظام العالمي بعد بروز القطبية الواحدية مباشرة بسبب انهيار القطب المنافس، وهو الاتحاد السوفييتي. وصدر أهم كتاب في هذا المجال وهو كتاب بول كينيدي عن «صعود وانهيار الإمبراطوريات العالمية»، وفيه تنبأ بتراجع القوة والقيادة الأميركية للعالم، واستعاد كينيدي نظرية ابن خلدون التي كررها وراءه أرنولد توينبي عن دورة الحضارات، وإن كان صاغها بلغة السياسة باسم دورة الإمبراطوريات أو القوى القائدة في المسرح العالمي، وسريعاً ما صار الحديث عن دورة القوى إحدى أهم نظريات العلاقات الدولية.

* الهجوم المضاد

ولم ينسَ اليمين الأميركي مواجهة هذه النظرية مبكراً، وتمكن لبعض الوقت من تهميش نظرية تآكل القوة الأميركية بفضل الحرب الحاسمة والسريعة التي شنها جورج بوش الابن لإخراج قوات صدام حسين من الكويت وتدمير العراق نفسه تدميراً شاملاً ثمناً لتحديه لشرعية القطب الواحد ونظام الأمم المتحدة بأسره.

ومع ذلك فقد عادت نظرية «دورة القوى وتراجع القوة الأميركية» بقوة حتى في العصر السعيد نسبياً للاقتصاد الأميركي، وهو عصر كلينتون. وخلال الأعوام الثلاث الماضية ذهبت الشكوك إلى مدى بعيد جدا في قدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم وتولي موقع القطب الوحيد، ووفرت أزمة المشروع الإمبراطوري الأميركي في العراق فيضاً من الأدلة على اضمحلال القوة الأميركية، وازدادت هذه الأدلة قدرة على الإقناع بسبب رفض العالم كله ليس فقط للغزو الأميركي للعراق، وإنما أيضا للعقلية التي أدار بها جورج بوش الابن سياساته الدولية، بل ولمجمل العقائد السياسية الأميركية التي تتسم بالغطرسة وامتلاك الحقيقة والرغبة في الإملاء على الآخرين، ولم يقتصر هذا الرفض على المسلمين أو الأوروبيين أو الصينيين وأصحاب الحضارات القديمة الذين هددتهم نظرية «صراع الحضارات» و«الثقافات»، بل صار عالمياً، وتواترت استطلاعات الرأي العام التي تجريها كثرة من المراكز العلمية ومراكز الاستطلاع الأميركية وتتفق على معنى واحد: العالم بأغلبيته الشعبية الساحقة تنفر من الغطرسة الأميركية وتريد من أوروبا أن تلعب الدور الرئيسي كبديل للقطبية الأميركية الواحدية.

شملت هذه الأدلة أيضا فشل الترويج للعقيدة الاستراتيجية الأميركية بقدرتها على شن حربين أو أكثر في مواقع متعددة من العالم، وهي العقيدة التي تشكل حجر الزاوية في ما يسمى بالقطبية الواحدية، وتولت الأزمة الأميركية في العراق القضاء على «شرعية» الحديث عن الانفرادية الأميركية في العالم، وهو الحديث الذي جعله المحافظون الجدد صناعة أو مبدأ جديداً لإرساء مفهوم الإمبراطورية الأميركية. ولم يعد من الممكن للرئيس الأميركي جورج بوش الابن أن يدافع عن استمرار هذه السياسة. وكان التجديد الأساسي الذي أتى به في ولايته الثانية هو العودة إلى فلسفة تحالف الأطلنطي أو ما يسمى بالتعددية كبديل للانفرادية، أما أقوى اعتراف بهزيمة فكرة القطبية أو الانفرادية الأميركية فجاءت في مقالة ريتشارد هاس بمجلة «فورين أفيرز» منذ أشهر قليلة، واكتسبت هذه المقالة أهمية كبيرة نظراً إلى مكانة الرجل الرسمية السابقة كرئيس لقسم التخطيط في وزارة الخارجية ومكانته في الجناح الأقل تطرفاً من المحافظين الجدد.

ولكن نظرية أن تلعب أوروبا الدور الرئيس في السياسة الدولية كبديل لأميركا تلقت طعنة كبيرة نظراً إلى أن الزعماء الأوروبيين الجدد لا يريدون هم أنفسهم تولي هذه المسؤولية. فالمستشارة الألمانية ميّزت نفسها حتى بوجه الرغبة الشعبية الألمانية في التوجه للولايات المتحدة ومساندة بوش بأكثر من الاهتمام بمواصلة توسيع وتعميق الاتحاد الأوروبي، وسريعاً ما لحق بها ساركوزي في الاتجاه نفسه، بل صار السباق بشأن دعم أميركا ذهنية عامة في أوروبا القديمة والجديدة على السواء، وخصوصاً بعد أن كسب الأميركيون جولة الصراع على نشر الدرع الصاروخية ومد نطاق الأطلنطي إلى أقرب نقطة من الحدود الروسية. ولكن ذلك كله لم يتشكل في موجة «استعادة» القطبية الأميركية الواحدية، إذ وجد أنصار النقد الموجه إلى هذه النظرية مرشحين جدداً سواء في الصين أو حتى في روسيا في ظل بوتين.

ويبدو أن البندول كان يتحرك لمصلحة الصين التي تمكّنت من اجتذاب إفريقيا بعقد القمة الإفريقية في قاعة الشعب بالبرلمان الصيني عام 2007، وحضرها 43 زعيماً إفريقياً. كما أن تمكن الرئيس بوتين أساساً بفضل الصعود الهائل لأسعار النفط في استعادة الحيوية الاقتصادية الروسية وطرح شعار وتطبيق برامج لتحديث القدرات الصاروخية والبحرية لروسيا وفرض قوة الطاقة الروسية على أوروبا.

* أوروبا مع «الاستعادة»

أما عقيدة الاستعادة، فذهبت اليوم إلى مراكز أميركية أساسية. ويلعب قسم العلاقات الدولية بجامعة هارفارد والمراكز اليمينية المتشددة، وإن الأقل هيبة، مثل «أميركان إنتربرايز» و«هدسون» وغيرها دوراً جوهرياً في استعادة اسطورة القطب الواحد.

والواقع أن فكرة الاستعادة صارت أيضاً هوى لليمين الأوروبي. وتقوم مراكز فكرية ومواقع إلكترونية كبيرة مثل منظمة الأطلنطي بدور ترويجي هائل لأسطورة الاستعادة، وإن كان ذلك بمعنى قطبية الأطلنطي بقيادة أميركية وليس بمعنى الانفرادية الأميركية.

بل إن منظمات دولية كبيرة دخلت حيز النقاش العام لدعم أسطورة الاستعادة الأميركية. وآخر التقارير المهمة للبنك الدولي في عصر زوليك، وهو وزير التجارة الأميركي السابق وأحد قيادات اليمين الجديد في أميركا، ركّزت على منح عقيدة الاستعادة دفعة جديدة.

ويقول التقرير، إنه أعاد تقييم المساهمات المقارنة في الاقتصاد العالمي من خلال سعر الصرف المكافئ وليس سعر الصرف السوقي، وظهر أن الناتج المحلي الاجمالي للصين لا يزيد كثيرا عن خمسة تريليونات دولار، وهو أقل من ثلث حجم الاقتصاد الأميركي، أما إن حسبت الأرقام الخاصة بنصيب الفرد من الدخل القومي فسيكون دخل المواطن الصيني %8 فقط من دخل نظيره الأميركي.

وكان البنك الدولي نفسه قد استنتج في دراسة سابقة بحساب سعر المكافئ أن الاقتصاد الصيني سيتجاوز الاقتصاد الأميركي بحد أقصى في 2015، بل وكان أشرف على القول إنه ربما يكون تجاوزه فعلاً من حيث الحجم. أما أهم ما تسهم به أدبيات قسم العلوم السياسية في هارفارد، فهو تأكيد أن القطبية لا تنحصر في مؤشر واحد سواء كان الاقتصاد أو القدرات العسكرية، فمعيار القطبية في النهاية هو مفهوم القوة الشاملة، ولا تكاد تكون ثمة قوة في العالم تكافئ ما تتمتع به أميركا من قوة شاملة: عسكرية واقتصادية وثقافية أو هذا ما يقولون.

*بين ماكين وأوباما

ورغم قوة الترويج لعقيدة استعادة القطبية الواحدية الأميركية فهي مازالت مأزومة وغير مقنعة، واليوم يدور جانب من النقاش الرئاسي الأميركي بشأن هذه المسألة بالذات. فبينما يريد ماكين استعادة غير منقوصة للهيمنة الانفرادية الأميركية ولا يبدي اهتماماً كبيراً حتى بالحلفاء الأوروبيين فأوباما ميَّز نفسه بالدفاع عن تحالف الأطلنطي، أما المفهوم الأهم الذي روّجه في البداية للدور الأميركي، فهو القطب القادر على حل مشاكل العالم.

وللأسف، فإن أوباما مال مع الوقت إلى حل مشاكله هو بالتضحية بالمفاهيم الجديدة التي صعد بها إلى السباق الصعب نحو القمة.

* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

back to top