حق العودة و القنبلة الديمغرافية الفلسطينية!!

نشر في 26-12-2008
آخر تحديث 26-12-2008 | 00:00
 د.عبدالحسين شعبان تمرّ في 10 ديسمبر من كل عام ذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولعلها مفارقة حقيقية، حين يكون عام صدور الإعلان، هو عام نكبة فلسطين 1948، حيث شهد العالم تلك المأساة ليس في تقسيم فلسطين فحسب، بل في إجلاء وتهجير سكانها الأصليين وتبديد كيانها وهويتها، وتدريجياً تحوّلت القضية الفلسطينة إلى ما يُعرف بمشكلة اللاجئين لاسيما بعد العام 1952، حيث غابت عن الأروقة الدولية، خصوصاً من الأمم المتحدة، التي لم تعد تبحثها باعتبارها قضية شعب له حقوق ثابتة غير قابلة للتصرف، بما فيها حقه في تقرير مصيره.

ورغم عودة فلسطين مجدداً إلى المحافل الدولية منذ العام 1974، لاسيما بالاعتراف بحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وحقه في إقامة دولته المستقلة، وهو محاولة من الأمم المتحدة لتبرئة ذمتها، لاسيما بإصدار القرار 3379 الخاص بمساواة الصهيونية بالعنصرية، ومن ثم اعتبار يوم 29 نوفمبر من كل عام يوماً عالمياً للتضامن مع الشعب العربي الفلسطيني، فإن هناك نكوصاً قد حصل باختلال ميزان القوى على المستوى الدولي، لاسيما بانهيار الكتلة الاشتراكية والانقسام الكبير في الصف العربي بغزو القوات العراقية للكويت العام 1990، الأمر الذي ساهم في تراجع الحلول المطروحة، خصوصاً بإعدام القرار 3379 في 16 ديسمبر 1991، وارتفاع منسوب التسويات التي توجت باتفاقيات أوسلو 1993.

وإذا كان يوم التضامن العالمي هو يوم صدور القرار 181 المعروف بقرار التقسيم، فإن ذكرى صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مناسبة أخرى للحديث عن حقوق شعب فلسطين، لاسيما حق العودة الذي نظمت مؤتمرات دولية لتأكيده في أسطنبول ودمشق، ونشطت جهات مختلفة للدفاع عنه، إلاّ أن الأمر لا يمكن بحثه دون الحديث عن الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خصوصاً في العقدين الأخيرين، وهو الذي عُرف بصفقة نهاية القرن التاريخية تحت عنوان « هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل».

ولقد ساهمت حرب الخليج الثانية في سرقة الأضواء عن قضية هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، تلك القضية التي اعتبرت جزءاً من المخطط الجديد للاستعمار الاستيطاني الصهيوني ومحاولة لإنعاش المشروع الصهيوني لاسيما بمواجهة إعلان دولة فلسطين العام 1988 الذي حظي باعتراف نحو 100 دولة اعترافاً قانونياً كاملاً De Jure، لكنه ظل في إطار الأمل وليس العمل، رغم محاولات إحيائه مجدداً.

كأن «نظرية الدومينو» لاتزال تفعل فعلها في الشرق الأوسط منذ الحرب العراقية-الإيرانية، خصوصاً إزاء المنطقة العربية، فكلّما كانت تُطفأ بؤرة من بؤر التوتر، كان يجري نقل الصراع إلى ميدان آخر، وربما بشكل أكثر احتداماً وعنفاً لجعل المنطقة تدور في دوامة مستمرة، وهي لا تفيق من مشكلة إلا لتُغرَق في أخرى، خصوصاً مع استمرار إسرائيل في سياستها العدوانية العنصرية وتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الوطنية المستقلة.

وترافقت قضية هجرة نهاية القرن العشرين مع تلميحات وتحركات لإثارة مشكلة المياه العربية، تلك المشكلة التي تشكل إحدى المعارك الصامتة، ولكنها قد تكون الأكثر خطورة ودون بزّات قتال أو مدافع، مع أن احتمالات تطورها إلى معارك ونزاعات مسلحة قائمة أيضاً لاعتباراتها الاقتصادية وأبعادها السياسية الخطيرة وانعكاساتها على الأمن القومي العربي، خصوصاً الأمن المائي والغذائي، وقد استمرت تركيا في مشاريعها المائية التي ألحقت ضرراً بالمصالح العربية، خصوصاً بقطع مياه نهر الفرات أو بناء عدد من السدود بلغ 22 سداً، أهمها سد الكاب، وشرعت أثيوبيا بإنشاء ثلاثة سدود كبيرة على نهر النيل بمساعدة إسرائيل وتستمر إسرائيل في شفط مياه نهر الأردن والهيمنة على نهر بانياس والاستحواذ على مياه نهر الليطاني في جنوب لبنان، إضافة إلى سحب المياه الجوفية من الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وكان شامير قد تحدث وقتها عن هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل، وعبّر عن سعادته الغامرة بهذه العملية التي وصفها بـ «المعجزة اليهودية الثانية»، فقد عنى بالمعجزة الأولى قيام دولة إسرائيل، حيث كان يدرك ماذا تعنيه الهجرة الجديدة لمئات الآلاف من اليهود السوفييت إلى إسرائيل، للمشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، خصوصاً في ظل المأزق الذي وصلت إليه إسرائيل سواءً على النطاق الداخلي أو الخارجي، واستمرار تنكّرها لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، وهو الأمر الذي يتجلّى حالياً باستمرار حصار غزة وفرض عقوبات جماعية لا إنسانية عليها، وذلك بعد بناء جدار الفصل العنصري، وفشل عدوانها على لبنان العام 2006، ووصول خططها إلى طريق مسدود، لاسيما في ظل أزمة الحكم الداخلية وفضيحة رئيس الوزراء أولمرت.

لقد عملت إسرائيل بخطين متوازيين: الأول رفض حق العودة، بل الاستمرار في عملية الترانسفير (الترحيل)، والثاني استمرار تشجيع اليهود بالهجرة إليها، لأنها تدرك ماذا يعني الاستعمار الاستيطاني، فهو يمتاز عن سائر أنواع الاستعمار بسمته الإجلائية، فإذا كان هدف الاستعمار الكلاسيكي، الاحتلال ونهب الخيرات بالدرجة الأولى، وهدف الاستعمار الجديد، الهيمنة الاقتصادية والسياسية والامتيازات العسكرية وتأمين استغلال الموارد، فإن الاستعمار الاستيطاني، يستهدف إلى تشريد وطرد سكان البلاد الأصليين وإحلال المستوطنين محلهم ليستحوذ على كل شيء، ابتداءً بالأرض ومروراً بترحيل أهل البلاد وانتهاء بالموارد والخيرات.

ولعل فلسطين هي البلد الوحيد في العالم الذي يعيش حالياً حالة الاستعمار الاستيطاني الذي هو من تراث الماضي البغيض بعد القضاء على الحكم العنصري في جنوب أفريقيا وإنهاء هيمنة الأقلية البيضاء، وينبغي على العالم المتمدن أجمع وضع حد له وإنهاؤه كجزء من مسؤولياته، لاسيما بتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره.

ومنذ وقت مبكّر عبّر هيرتزل الأب الروحي للحركة الصهيونية عن حقيقة الطابع العنصري الشوفيني للاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وذلك في كتابه «دولة اليهود» The Jewish State عندما وصف اليهود بأنهم «شعب مستعمِر» (بكسر الميم)! وحين أقيمت إسرائيل في العام 1948 هتف بن غوريون قائلاً: إن المعجزة المزدوجة قد حدثت حين استطاعت الصهيونية اكتساب الأرض واضطرار العرب إلى الهرب.

لقد عملت الصهيونية في فلسطين تحت شعارات أساسية لتحقيق استعمارها الاستيطاني، مثل احتلال الأرض، أي شرائها وامتلاكها وحرمان الفلاحين العرب منها، وكان شعار احتلال الأرض مقدساً لدى الحركة الصهيونية، خصوصاً فترة الانتداب البريطاني واحتلال العمل، أي السعي لطرد العمال العرب من أماكنهم وتضييق فرص العمل أمامهم. والإنتاج العبري، الذي يعني مقاطعة المنتجات والبضائع والسلع العربية وترويج المنتجات العبرية محلها.

ويستهدف رفض حق العودة الفلسطيني وتشجيع عمليات الهجرة اليهودية إحداث تغيير ديمغرافي في الطابع القومي والتركيب السكاني، وذلك بالعمل على «توطين» المهاجرين اليهود وتهجير السكان العرب الفلسطينيين. وتاريخياً كانت وتيرة الاستيطان ترتفع بالارتباط مع تصاعد عمليات التهجير القسري والترحيل الإجباري للفلسطينيين عن وطنهم وديارهم.

إن رفض الاستجابة لحق قانوني وإنساني ينسجم مع اللوائح الدولية لحقوق الإنسان، ونعني به حق العودة، والاستمرار في تشجيع الهجرة بالمقابل، إنما يستهدف الوقوف في وجه ما يسمى القنبلة الديمغرافية الفلسطينية التي ستهدد بالانفجار، والتي قد تصل إلى ما يعادل الإسرائيليين (اليهود) حسب بعض التقديرات العلمية غير المنحازة (بما فيها الإسرائيلية).

إن مبدأ «الأغلبية اليهودية» الذي كان شرطاً من شروط قيام الدولة، ثم ضمانة للسيادة حسب المفهوم الصهيوني، سيتعرض للثلم وربما لخطر الإلغاء ومعه يصبح مصير الدولة مهدداً برجحان العنصر العربي أو اقترابه من التعادل، لهذا يصبح التمسك به واستقدام يهود جدد ضرورة، بل حاجة ماسة في رفض حق العودة، وذلك كجزء من مخطط بركنين: الأول باتجاه توطين المهاجرين اليهود، والثاني رفض حق عودة اللاجئين.

وقد كشف إيغال ألون بعد عدوان 5 يونيو عام 1967 الأهداف الاستعمارية الاستيطانية للعدوان الإسرائيلي حين قال «واجبنا استيطان (إسرائيل الكبرى)... إن من يشك في هذا يضع علامة استفهام حول العقيدة الصهيونية»، وأشار إلى أن الاستيطان يستهدف:

1- احتلال المناطق العربية الكثيفة بالسكان وإخلاءهم منها.

2- توزيع المستوطنات بحيث تشكل بمجموعها نظاماً متماسكا من الدفاع و«الهجوم المشترك».

3- اعتبار المستوطنات قواعد أمامية (نقاط ارتكاز) لتوسيع الدولة العبرية.

وقد أفصح عن ذلك بشكل أكثر سطوعاً موشي ديان، حين قال «نحن جئنا إلى هنا (فلسطين) واستقر بنا المقام لا على أرض خالية قفراء. لقد كان العرب يسكنون على هذه الأرض، وإننا نُسكن اليوم اليهود هناك، حيث كان العرب يعيشون سابقاً... نحن حوّلنا بلداً عربياً إلى بلد يهودي».

* باحث ومفكر عربي

back to top