الحوار

نشر في 16-03-2009
آخر تحديث 16-03-2009 | 00:00
 د. حسن حنفي لا يوجد كتاب سماوي أبرز قيمة الحوار ومارسه مثل القرآن الكريم، فقد حاور الخصوم: الكافر، والمشرك، والمنافق، وكل الخصوم دون رفضهم أو استبعادهم، بل باعتبارهم نماذج إنسانية لغياب الإيمان، وباعتبارهم اختيارات يمكن تبديلها عن اقتناع.

فالحقيقة متعددة الجوانب، يمكن الجمع بينها بالحوار، والوصول إلى اتفاق دون حسم مسبق أي الجوانب أحق من الجوانب الأخرى «وَإنَّا أوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»، ودون ممارسة للعنف بل بالحوار وبيان أي المواقف أصح وأنسب وأقرب إلى العقل والمصلحة.

وقد أصبحت كلمة الحوار شائعة في الغرب المعاصر مدعيا أنه ثقافة الحوار بمد يده إلى غيره من الثقافات، خصوصاً الثقافة الإسلامية تحت مسميات عديدة، حوار الأديان، الحوار الإسلامي المسيحي، حوار الحضارات، حوار الثقافات، حوار الشمال والجنوب، حوار الشرق والغرب. وعادة ما تكون اليد العليا للغرب، والطرف الآخر هو الأضعف والأكثر خجلاً لاتهامه بالعنف والتعصب والرفض والتكفير والتخوين والإرهاب.

وذلك تخفيفا للتوتر بين الإسلام والغرب، وتطهرا من العداء التاريخى منذ الحروب الصليبية حتى الاستعمار الحديث والاستعمار الجديد، وزيادة هجرة العرب والمسلمين إلى أوروبا حتى أصبح الإسلام هو الدين الثاني فيها بعد المسيحية وقبل اليهودية، واستدعاء للحظات الوفاق التاريخي منذ عصر الترجمة الأول من اليونانية إلى العربية في القرن الثاني للهجرة والتي كان بفضلها نشأت الفلسفة الإسلامية حتى عصر الترجمة الثاني من الحضارة العربية إلى الحضارة الغربية، فنشأت العصور الحديثة في الغرب منذ العصور الوسطى المتأخرة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر حتى عصر العودة إلى الآداب القديمة في القرن الرابع عشر، والإصلاح الديني في الخامس عشر، وعصر النهضة في السادس عشر قبل أن تبدأ العقلانية «أنا أفكر فأنا إذن موجود» في السابع عشر، وتستمر في التنوير في الثامن عشر، وفي الفكر العلمي في التاسع عشر حتى يقع الغرب في أزمة القرن العشرين.

وقد ظهر الوفاق ثانيا في عصر الترجمة الثالث في القرن التاسع عشر الأوروبي منذ الطهطاوي وترجمة فلسفة التنوير التي على أساسها قامت النهضة العربية الحديثة.

وقد ورد لفظ «الحوار» في القرآن ثماني مرات: ثلاث بالمعنى الحقيقي أي النقاش الحر، وخمس بالمعنى المجازي الذي يطلق على حواريي السيد المسيح الذين آمنوا به بعد حواره لهم واقتناعهم به مثل الصحابة.

والمعاني الثلاثة للحوار بالمعنى الحقيقي هي موضوعات الحوار مرتين، وطرفا الحوار مرة، فموضوع الحوار الأول هو المادة، المال والبنون، الثروة والسلطة «فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أنَا أكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأعَزُّ نَفَراً». فقد ظن أحد طرفي الحوار على الإطلاق دون تعيينه، بل باعتباره نموذجاً للمتحاور أنه أكثر قوة من الطرف الآخر بالمال والعشيرة، وهي أمور دنيوية خالصة. وقد يكون الفقير اليتيم أكثر فضلا من صاحب المال الوفير والنفر الكثير. فالكم لا يعطي فضلا على الكيف، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله.

والمعنى الثاني هو الفضل المعنوي «قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ»، فكيف يكفر الإنسان بالخالق الذي خلقه من تراب؟ من يفعل ذلك فقد أنكر البداهة والفطرة والحس السليم. المعنى الأول الفضل في الدنيا، والمعنى الثاني الفضل في الآخرة. الأول في المادة، والثاني في الروح. الأول في البدن والثاني في النفس.

والمعنى الثالث هما طرفا الحوار مثل الزوجين «قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ»، فالطرف الأضعف يبحث عن طرف ثالث لينصره، والمرأة هي الطرف الأضعف أمام الرجل تشتكي إلى الله بعدما لم ينفع جدالها مع زوجها للدفاع عن حقوقها.

والمعنى المجازي هم الحواريون الذين حاوروا السيد المسيح في نبوته، وناقشوه في رسالته، واقتنعوا به، ونصروه وناصروه «قَالَ الْحَوَاريُّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ». ويكون ذلك اعترافا منهم أو رداً على سؤال السيد المسيح «قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَاريِّينَ مَنْ أنْصَاري إلَى اللهِ»، وقد يكون ذلك اقتناعا منهم أو إيحاء من الله لهم «وَإذْ أوْحَيْتُ إلَى الْحَوَاريِّينَ أنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا»، ولم يؤمن الحواريون إلا بعد برهان عيني ودليل حسي، إنزال مائدة من السماء «إِذْ قَالَ الْحَوَاريُّونَ يَا عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ»، فلما أنزلها الله عليهم آمنوا به، والدليل الحسي ربما يكون أكثر إقناعاً لليهود لطبيعتهم الحسية في عبادة العجل من الدليل العقلي.

الحوار إذن ممكن على المستويين المادي والمعنوي وبحضور طرف ثالث عدل، فالحوار بين العرب والغرب ممكن مادياً إذا ما دعم الغرب خطط التنمية العربية، وناصر القضية الفلسطينية، وحسّن صورة الإسلام في أجهزة إعلامه وفي كتاباته. هنا تصبح الضفتان في البحر الأبيض المتوسط طرفين متفاهمين في الحوار. كل طرف مقتنع بوجهة نظر الطرف الآخر ومصالحه، ورما تكون أميركا الطرف الثالث العدل إذا أرادت دون أن تنحاز إلى الغرب أو روسيا بعد أن تنتقل من التعاطف المعنوي إلى التعاطف المادي حتى يكتمل الحوار.

* كاتب ومفكر مصري

back to top