أبعاد الحوار الاستراتيجي بين مصر وتركيا (3- 3)

نشر في 02-10-2008
آخر تحديث 02-10-2008 | 00:00
 د. مصطفى اللباد وضع العلاقات العربية التركية على طريق المصالح المتبادلة من شأنه التأثير في اتجاهات السياسة الخارجية التركية واجتذابها بشكل عملي إلى دائرة التأثير العربية.

دخلت مصر جولة الحوار الاستراتيجي مع تركيا وعينها على التوازنات بالمنطقة، إذ إن التقاء مصالح القاهرة وأنقره على ضرورة تعديل التوازنات الحالية قد ساهم في تعبيد الطريق أمام الحوار. كما أن القاهرة التي تقرأ تاريخياً المؤشرات الإقليمية وبحساسية معروفة، تجد أن السياق الزمني الحالي هو الأنسب لإجراء هذا الحوار، مع ملاحظة أن القاهرة لا تقوم بحوارات استراتيجية سوى مع الولايات المتحدة الأميركية. وهو ما يشي بالأهمية التي توليها القاهرة للعلاقات المصرية-التركية ودورها في تعديل التوازن المذكور. تتابع القاهرة امتلاك تركيا لمساحات تأثير متزايدة في سياسات المنطقة عبر دور «صانع السلام»، الذي تقوم به أنقره بين دمشق وتل أبيب بترحيب أميركي وأوروبي. وتفضل القاهرة معالجة ذلك الوضع -في ضوء التوازنات الراهنة- عن طريق عدم الاصطدام بالدور التركي، بل عبر التحاور معه على هوامش الاتفاق والاختلاف؛ وصولاً إلى اقتسام دور «صانع السلام» بين القاهرة وأنقره. ويعزز من هذا التوجه أن القاهرة لا تبدو مرتاحة إلى دورها الثانوي في «محور الاعتدال»، ولا ترى تالياً مسوغاً يجعلها تدفع أثمان إقليمية لأخطاء استراتيجية فادحة لم ترتكبها القاهرة. ويقود التحليل الموضوعي للأمور والتوازنات- من منظور القاهرة طبعاً- إن ما اعتادت عليه المنطقة من سياسات وتحالفات قد صار أمراً من الماضي، فالعراق لن يعود في المدى المنظور على الأقل حائطاً أمام النفوذ الإيراني.

يعيد الحوار الاستراتيجي المصري التركي فتح أبواب ومساحات الحركة أمام القاهرة للعمل في المنطقة، ولكن دون أن تنسى القاهرة الأهداف التركية المحدودة من الحوار في إطار خطتها الإقليمية الشاملة. والدليل الأبرز على ذلك أن المسعى التركي من الانفتاح على سورية لا يهدف إلى إعادة دمشق من تحالفها مع إيران مرة أخرى إلى تحالفها التاريخي مع القاهرة، وإنما إلى تعظيم أوراق القوة الإقليمية التركية وبشكل حصري. كانت لفتة ذكية من وزير الخارجية المصري أن يقول «حوارنا ليس موجهاً ضد إيران»؛ فالموضوع يجب أن يكون فعلاً أعمق من ذلك. ربما توجب على القاهرة الاستمرار في حوارها الاستراتيجي مع تركيا، باعتبار ذلك ضرورة وطنية مصرية، ولكن مع التفكير جدياً بإعادة العلاقات مع طهران في الوقت نفسه؛ وصولاً إلى تأثير أعمق في الحسابات التركية والإيرانية معاً في هذه اللحظة الفاصلة من توازنات المنطقة.

الدروس المستفادة من بدء الحوار الاستراتيجي المصري التركي كثيرة ومهمة في آنٍ معاً، وأهمها وجود ارتباط شرطي يقوم بين تعزيز المصالح العربية وتعظيم قدرة الدول العربية على ترتيب أولوياتها الوطنية والإقليمية من ناحية، واستيعاب الاستراتيجية التركية الجديدة والتعامل معها على قاعدة المصالح المشتركة من ناحية أخرى. لم تؤد السياسات العربية تجاه تركيا منذ عشرات السنين وحتى الآن إلا إلى تهميش العامل العربي في السياسة الخارجية التركية، فالاستثمارات العربية في أغلبيتها الساحقة تستقر خارج المنطقة، وحتى الواردات العربية المتزايدة من السلع والخدمات تتجاوز تركيا التي لا تحظى إلا بنصيب ضئيل جداً منها. وهكذا وحتى الآن لم تقدم السياسات العربية -للأسف!- إلى تركيا ما يمكن أن يرقى إلى درجة الأخذ في الاعتبار عند رسم سياستها الخارجية. ولا يمكن بالتالي أن نأمل كعرب في تفاهم وتعاون مع تركيا، بشكل يراعي مصالحنا الوطنية والقومية دون إبراز مصالح اقتصادية لتركيا في العالم العربي، الذي يستورد من السلع أكثر بكثير مما يصدر، وهي حقيقة واضحة نتعايش معها كعرب منذ عقود طويلة مضت.

يمكن لصناع القرار العرب مخاطبة تركيا من موقع الفاعل فقط إذا ما استوعبنا وفهمنا الإطار الذي يحكم مصالح تركيا، ونجحنا في التأثير على سياستها الخارجية عبر المداخل الاقتصادية، وليس الاكتفاء بمطالبتها بالتضامن مع مصالحنا دون أن نقدم مميزات بالمقابل، فطريق المصالح يسير في اتجاهين وليس في اتجاه واحد. ولا يعنى ذلك أن المشاكل العالقة بين العرب وتركيا سواء في موضوع المياه أو الحدود أو العلاقات مع «إسرائيل» سوف تجد طريقها تلقائياً إلى الحل، ولكن وضع العلاقات العربية التركية على طريق المصالح المتبادلة من شأنه التأثير في اتجاهات السياسة الخارجية التركية واجتذابها بشكل عملي إلى دائرة التأثير العربية، تلك التي تقلص نطاقها بمرور الزمن ليشمل الحدود السياسية لكل دولة عربية على حدة في أحسن الأحوال. دعونا نستبشر خيراً بالحوار الاستراتيجي بين مصر وتركيا!.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة

back to top