قلعة الجبل... مدينة داخل حصن (1) من حلم صلاح الدين إلى مذبحة محمد علي.. تعددت الأسماء والحصن واحد

نشر في 15-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 15-09-2008 | 00:00
سجن ودار حكم، حصن ومدينة، تلك هي «قلعة الجبل» التي لم يقصد منشئها أن تكون مجرد مبنى من مباني القاهرة، بل أرادها بديلاً للعاصمة كلها، قبل أن تصبح واحدا من أشهر آثارها، بعدما أصبحت عواصم مصر الإسلامية كلها عاصمة واحدة، بانضمام الفسطاط والقطائع والعسكر والقلعة إلى القاهرة الفاطمية، إضافة إلى ما استحدثه «الخديو إسماعيل» من توسعة عرفت باسم «القاهرة الفرنسية»، وليصبح هذا كله مدينة واحدة عرفت باسم «القاهرة»، وحفظت ذاكرتها لـ«قلعة الجبل» الأدوار المتعددة التي لعبتها عبر تاريخها، الذي بدت فيه القلعة وكأنها مؤشر أطوار القاهرة الحضارية، بمعنى أن الدور الذي كانت تقوم به كانت ـ باستمرار ـ يلائم طبيعة المرحلة التي تمر بها القاهرة. حيث كانت القلعة حصنا حربيا، كما كانت دارا للحكم، وساحة للعدل، وحافظة أوراق مصر الثبوتية، والسجن الذى سجلت على طبقات طلائه المتعاقبة بأنات المظلومين ودماء المعذبين قصص سقوط الدول وصعود غيرها، وهي أيضاً الأسوار التي تحرس عشرات الأساطير وآلاف القصص، وتضم مساجد وأضرحة ومتاحف. هي سجل الملوك، منذ «صلاح الدين الأيوبي» الذي بناها ولم يسكنها، إلى سلاطين المماليك الذين عمروها بالمساجد والأبراج والقصور، إلى محمد علي الذي زاد في عمارتها أشهر مساجدها وقصورها، وعمدها بالدم في مذبحتها الشهيرة.

تعددت في التاريخ أسماؤها، فهي «قلعة صلاح الدين» نسبة إلى مؤسس الدولة الأيوبية الذي أنشأها. وهي «قلعة الجبل» نسبة إلى «جبل المقطم» الذي تشرف عليه، وهو الاسم الشائع لها بين علماء الآثار والباحثين ربما لأنه أكثر الأسماء حياداً. وهي «قلعة القاهرة» حسبما أطلق عليها المستشرقون وعلماء الحملة الفرنسية. وهي «قلعة محمد علي» نسبة إلى أشهر من سكنها وارتبط بها من أرباب الدول. هذا عن الاسم بحسب من نسبت إليه، وأما لفظ «القلعة» فقال عنه «ابن سيده» عالم اللغة في كتابه «المحكم»: «القَلَعَة ـ بتحريك القاف واللام والعين وفتحها ـ الحصن الممتنع في جبل، وجمعها قلاع وقلع، وأقلعوا بهذه البلاد بنوها فجعلوها كالقلعة، وقيل القَلْعَة ـ بسكون اللام ـ حصن مشرف وجمعه قلوع».

المأمون وخمارويه في «قبة الهواء»

يقول «المقريزي» في «كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» المعروف بـ«خطط المقريزي»: «اعلم أن أول ما عرف من خبر موضع قلعة الجبل أنه كان فيه قبة تعرف بقبة الهواء». وهي قبة بناها «حاتم بن هرثمة بن أعين» سنة 194هـ ـ في زمن الخليفة العباسي «محمد الأمين بن هارون الرشيد» ـ وحاتم هو الثالث والسبعين من ولاة مصر بعد الفتح الإسلامي، قال «محمد بن يوسف الكندي» في كتابه «ولاة مصر»: «.. وابتنى حاتم بن هرثمة القبة التي تعرف بقبة الهواء، وهو أول من ابتناها». ويبدو من موقع البناء (مقابل جبل المقطم على الربوة المعروفة بـ«ربوة الصوة») أنه بناها للتحصن بها، خاصة بعدما شهدت مدة ولايته القصيرة ـ أقل من 14 شهراً ـ من اضطرابات وثورة وقتال، وعندما جاء الخليفة «المأمون» إلى مصر اتخذ من قبة الهواء مجلساً، كما حبس فيها «الحارث بن مسكين» عندما غضب عليه، وظلت القبة المحل المفضل لإقامة الولاة، لدرجة أن «أحمد بن طولون» ـ مؤسس الدولة الطولونية والسادس بعد المائة من ولاة مصر ـ كان كثيراً ما يقيم فيها مفضلاً إياها على قصره الذي بناه تحت الربوة التي تقع عليها القبة، واعتنى بها من بعده ابنه وخليفته «خماروية»، ثم عندما زالت الدولة الطولونية، وخرب قصر أحمد بن طولون وميدانه، خربت معهما «قبة الهواء»، وأصبح موضعها مقبرة بنيت حولها بضعة مساجد، حتى وقع اختيار «صلاح الدين الأيوبي» على «ربوة الصوة» ليبني القلعة فوقها، وذلك عام 572هـ/1176م، حيث قام وزيره «بهاء الدين قراقوش الأسدي» بهدم المساجد والقبور التي كانت موجودة، وقام العمال بنحت الصخر وحفر خندق اصطناعي فصل جبل المقطم عن الربوة زيادة في مناعتها وقوتها، وبدأ البناء سنة 579 هـ/1183 ـ 1184م.

مأزق السلطان

سبب بناء القلعة ـ كما يقول «المقريزي» ـ أن «السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لما أزال الدولة الفاطمية من مصر، واستبد بالأمر، لم يتحول من دار الوزارة بالقاهرة ولم يزل يخاف على نفسه من شيعة الخلفاء الفاطميين بمصر، ومن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى سلطان الشام فامتنع أولا من نور الدين بأن سير أخاه الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب فى سنة تسع وستين وخمسمائة (هـ) إلى بلاد اليمن، لتصير له مملكة تعصمه من نور الدين، فاستولى شمس الدولة على ممالك اليمن، وكفى الله تعالى صلاح الدين أمر نور الدين ومات فى تلك السنة، فخلا له الجو وأمن جانبه، وأحب أن يجعل لنفسه معقلا بمصر». وهي فقرة تشير إلى الوضع الحرج الذي وجد «صلاح الدين الأيوبي» نفسه فيه، فقد أُوفد من قِبَل «نور الدين محمود بن زنكي» سلطان دولة «آل زنكي» المجاهد، سني المذهب، الذي نذر حياته لقتال الصليبيين، ليصبح وزيراً للخليفة الفاطمي الأخير «العاضد» ـ وهو طفل شيعي المذهب تلاعب به وزيراه السابقان وتحالف أحدهما مع الصليبيين ـ وعندما أعلن «صلاح الدين» خلع الخليفة الفاطمي أصبح بين مطرقة السلطان الذي أرسله، والذي لم يزل يعتبره جزءاً من بلاطه وعضواً في حاشيته ويهدد سلطانه الذي بسطه على ما كان يحكمه الفاطميون في مصر والحجاز واليمن، وسندان بقايا الدولة الفاطمية من جند وأتباع كان معقلهم الرئيسي «القاهرة» التي كانت عاصمة عسكرية لا يسكنها إلا قادة الدولة والجند، كانت ـ في الجملة ـ مجرد حصن أو قلعة «محروسة» بالأسوار والأبواب، ولم يكن من الفطنة أن يقيم سلطان البلاد الجديد «صلاح الدين» في معقل خلفاء الدولة التي استولى على ممتلكاتها للتو، لهذا ـ وتأثراً بما رآه من قلاع في الشام ـ شرع في بناء القلعة، لتكون عاصمة لدولته ـ بديلاًَ للقاهرة ـ طبقاً لمفهوم القرون الوسطى عن العاصمة من ناحية، ومن ناحية أخرى لتكون «النقطة الحصينة» في عاصمة أكبر، أرادها أن تصبح قاعدة ملكه في مواجهة الإمارات الصليبية؛ حيث أراد أن يضرب سوراً حول المساحة الممتدة من «القاهرة» شمالاً إلى «الفسطاط» جنوباً، تكون «القلعة» في القلب منه. ذلك السور، الذي لم يقدر له أن يتم أبداً والذي كان تطويراً لسور الوزير الفاطمي أرميني الأصل «بدر الجمالي»، كان سيطوق مدينة «القاهرة» كما نعرفها اليوم، جامعاً عواصم مصر التاريخية كلها (الفسطاط، القطائع، العسكر، القاهرة) في مدينة واحدة، وهو ما لم يتحقق إلا على يد الخديو «إسماعيل»، بعد ما يقرب من سبعة قرون على مشروع «صلاح الدين الأيوبي»، ما يؤكد بعد نظر ذلك السلطان العبقري مؤسس الدولة الأيوبية، وقدرته على قراءة المستقبل قراءة صحيحة.

back to top