أذربيجان 4- 4: التحالف الدولي يمسح آثار الهزيمة العسكرية
اختلطت محددات الصراع على قره باغ وتشابكت خيوطه، ولم يعد محكوماً فقط بالواقع العسكري على الأرض؛ وأمسى الصراع عليها مرتبطاً بالنفط وأنابيب نقله، وبالمصالح الدولية التي تحركه وترسم سيناريوهات تطورها.تطل أذربيجان على بحر قزوين الغني بالنفط، ولكن المغلق وغير المتصل ببحار مفتوحة على العكس من الخليج العربي، وهو ما يرفع من تكاليف نقل هذا النفط. وحتى يتم نقل نفط قزوين إلى الأسواق الدولية فقد تم رسم استراتيجية لنقله عبر الأنابيب تحت الأرض لمسافات بعيدة جداً، تتخطى فيها الأنابيب حدود الدول لتصل إلى منتهاها عند مستهلكيها. وتعتبر فكرة الأنابيب الناقلة للنفط تقدماً تقنياً يرقى إلى مصاف الانقلاب المدوي، بما يحدثه هذا الانقلاب من تغيير عميق وحاد بالقيم والعلائق المكانية، حيث يربط أكثر من نقطة في مواقع جغرافية مختلفة بمصالح اقتصادية مشتركة، الأمر الذي يدفعها -موضوعيا- للدخول إلى حيز استراتيجي مشترك تتراوح الأهمية النسبية فيه لمن يملك مناطق الالتقاء والمصبات. وتأسيساً على ذلك فقد صار الصراع على فرض الطرق لشبكات أنابيب الملمح الرئيس لصراع القوى والإرادات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة. وتتنافس طرق عدة على حيازة قصب السبق في هذا المضمار، وهو الطريق الشمالي من باكو في أذربيجان؛ ومن ثم إلى ميناء سوبسا في جورجيا؛ وانتهاء بميناء جيهان التركي على البحر المتوسط، وهو الطريق الذي تفضله شركات النفط الأميركية، لأسباب غير خافية يتصدرها تقليص مواقع روسيا وإيران في موازين القوى الجديدة، وليس خافياً أن الطريق الشمالي الذي تتموضع أذربيجان في القلب منه هو الطريق، الذي استطاع فرض نفسه على أجندة القرار الدولي. حاولت روسيا فرض طريق مغاير لنقل نفط وغاز بحر قزوين، يبدأ من باكو ويمر عبر الأراضي الروسية وحتى ميناء نوفروسييسك على البحر الأسود، ومن هناك إلى الأسواق العالمية ولكنها فشلت. وحاولت إيران جذب الانتباه إلى المسار الجنوبي لشبكات الأنابيب من باكو على بحر قزوين إلى كراتشي على بحر العرب في باكستان عبر أراضيها، أو مبادلة كميات من النفط الأذربيجاني في شمال إيران بكميات مماثلة في جنوب إيران على الخليج العربي من دون جدوى أو نتيجة، حيث تنبهت إيران متأخرة إلى استحقاقات ومعاني التفاهمات الدولية بشأن منطقة بحر قزوين. ولعل القصة التراثية الإيرانية الشهيرة التالية هي أصدق تعبير عن حال تلك السياسة: تحكي القصة عن زوجة تسمع ليلاً أصوات قرب باب الدار، فتقول لزوجها: اذهب واستطلع الأمر، إما قطة وإما لصاً، فيقول الزوج وهو يرتعد: تكون إن شاء الله قطة!. وحين تبين للسياسة الخارجية الإيرانية أن الشركات النفطية العالمية قد أصبحت على بابها، كان الوقت قد فات إلى حد كبير. انعكست موازين القوى الجديدة والتموضع في خرائط الأنابيب على الأداء التفاوضي لأذربيجان، إذ رفضت ما اعتبره بعضهم حلولاً وسطاً؛ فتمسكت بالانسحاب غير المشروط للقوات الأرمينية من قره باغ. ولم تقدم أذربيجان للجانب الأرميني حتى من المزايا الاقتصادية ما يفتح الطريق للتوصل إلى حلول ترضي أرمينيا وتعيد قره باغ في الوقت نفسه إلى أذربيجان. ومن ناحية أخرى فقد خبرت أذربيجان إمكان تنفيذ قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، القاضية بمطالبة الأرمن بالانسحاب من قره باغ في ظل النظام الدولي أحادي القطبية، وتوصل صانع القرار فيها إلى أن تغيير تحالفاتها الاستراتيجية، بمغادرة «المنظومة السوفييتية» ووريثتها الروسية، ومن ثم الانضمام إلى التحالف النفطي والاستراتيجي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، هو السبيل الأنجع لبلوغ أهدافها في استرجاع إقليم قره باغ وإعادته إلى سيادتها الوطنية.استحال النزاع على قره باغ رمزاً وطنياً في أرمينيا يستطيع بعث «المظالم التاريخية» بصفتها المكون الأبرز للشخصية الوطنية الأرمينية، وأصبحت الأحداث السياسية هناك تقاس بمدى ارتباطها بهذا النزاع وتتطوع له وتتشكل على أساسه. وبالمقابل فقد صارت موارد منطقة بحر قزوين من النفط والغاز؛ وبمقدمها موارد أذربيجان، هي هدف الولايات المتحدة الأميركية والشركات النفطية العملاقة. اختلطت إذن محددات الصراع على قره باغ وتشابكت خيوطه، ولم يعد محكوماً فقط بالواقع العسكري على الأرض؛ وأمسى الصراع عليها مرتبطاً بالنفط وأنابيب نقله وبالمصالح الدولية التي تحركه وترسم سيناريوهات تطورها. ولأن أذربيجان أفلحت في مخاطبة الأخيرة وانضوت في تحالفاتها بعد أن تبوأت موقعها المركزي في خرائط أنابيب نقل النفط من بحر قزوين، يمكن الآن الحديث عن مثال غير مسبوق في العلاقات الدولية مفاده أن التموضع في التحالف الدولي الراجح يمكن أن يمسح آثار الهزيمة العسكرية على الأرض! * كاتب وباحث مصري