الشعر ونجومه

نشر في 06-03-2009
آخر تحديث 06-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان في الفترة من 15 إلى 18 مارس تُعقد في القاهرة الدورة الثانية لمهرجان الشعر العربي بعد دورته الأولى التي عُقدت قبل عامين، وفاز فيها الشاعر الراحل محمود درويش بجائزة الشعر، وبمناسبة انعقاد الدورة الحالية تردد على ألسنة بعض الإعلاميين والصحافيين سؤال واحد عن الشعراء النجوم المشاركين في المهرجان، ربما لأننا اعتدنا أن نربط نجاح أو فشل مؤتمر أو مهرجان إبداعي ما بحضور المبدعين النجوم أو غيابهم، ولا أعرف لماذا صدم البعض عندما تحدثت عن انتهاء عصر الشعراء النجوم بعد رحيل نزار قباني ومحمود درويش وكأن غياب الشاعر النجم لا يعني في الواقع سوى موت الشعر أوغيابه.

في الشعر وفي غيره من الفنون هناك مسافة ما بين المبدع النجم والمبدع الكبير، فالأول قادر بسبب شهرته وجاذبية نجوميته على شد ناس من فئات وأعمار وثقافات مختلفة لكي يحتفوا به وبإبداعه، بينما يقنع الثاني بجمهور أقل ونوعي ومهموم بالإبداع ومتابع لمعظم تياراته وتحولاته، ويحدث أحياناً أن يجتمع المبدع النجم والمبدع الكبير في الشخص ذاته كما يحدث أيضاً أن يفشل المبدع النجم في ترك ظلال له أو تقنيات فنية أو أبناء إبداعيين، يذكّرون به ويكرّسون وجوده رغم هالته وسلطته الإبداعية والاحتفاء الدائم به، بينما ينجح المبدع الكبير أحياناً في تغيير مجرى وملامح النهر الإبداعي.

في صباي كان اسم نزار قباني يتدحرج ويتردد على ألسنة بعض أهل القرى، وكان هناك من يحفظ قصيدته «خبز وحشيش وقمر» وهناك من يشتمه بسبب جرأته وإباحيته وقصائده الحسية والشبقية، وفي الجامعة نسخت مع غيري قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» ثم ردد الناس مع المطربين والمطربات قصائده، وفي منتصف الثمانينيات كانت أمسية نزار قباني الشعرية في معرض القاهرة للكتاب تربك الجميع وتدفع المسؤولين إلى تعليق مكبرات الصوت خارج القاعة، وإلى الاستعانة بأعداد كبيرة من رجال الأمن للسيطرة على الجماهير ولجم تدافعها.

نزار قباني كان شاعراً نجماً بكل المقاييس، وكذلك محمود درويش الذي منحناه منذ بداياته كل التقدير والحب وأجبرناه على إطلاق صيحته الشهيرة «ارحمونا من هذا الحب» لأنه ظهر بعد هزيمة يونيو 1967 واهتزاز ثقة الإنسان العربي بنفسه وبهويته ليقول في إحدى قصائده الأولى «سجّل... أنا عربي» وليصبح رأساً لقصيدة المقاومة، وسفيراً للشعب الفلسطيني، وحاملاً لخرائط مدن وقرى فلسطينية، شاركنا حكاماً ومحكومين في التخلى عنها، وكان كتاب رجاء النقاش «شعراء الأرض المحتلة» الذي قدم به للقارئ العربي درويش وزملاءه، ثم كان البرنامج الإذاعي اليومي «أغنيات الدم والسلام» الذي خُصص لإذاعة قصائد درويش وزميليه سميح القاسم، وتوفيق زياد وغيرهما، ثم وصل الشاعر إلى القاهرة ليعمل كاتباً في جريدة الأهرام في أوائل السبعينيات جنباً إلى جنب مع الكتّاب الكبار توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، ولويس عوض، ونجيب محفوظ، وصلاح جاهين، ولكي يصبح نجماً يُحتَفَى به في مصر والبلاد العربية ويحرص المسؤولون والإعلاميون والسياسيون من كل التيارات وكبار النقاد والمثقفين والمبدعين على حضور أمسياته الشعرية والإشادة به. وقد أربكت هذه النجومية الشاعر في بداياته، وجعلته يدور حول نفسه، ويكرر ويجتر قصائده، خاصة في دواوينه الستة الأولى قبل أن يتمرد ويجتهد ويكد ويعدل مساراته الشعرية.

أحياناً يتحول الشعراء إلى نجوم في آخر أيامهم وبعد رحيلهم، كأمل دنقل الذي كان يرفض المراهنة على المستقبل، ويقول لي: «إذا لم ننجح الآن لن ننجح غداً، فكل جيل يأتي ومعه شعراؤه وكتابه ولصوصه».

وهناك أيضاً شعراء كثيرون عاشوا شبه مغمورين وقانعين بعدد محدود من القراء، منهم شاعر الإسكندرية قسطنطين كفافي الذي وُلد وعاش ومات في الإسكندرية، وظل يكتب قصائده ويطبع منها نسخاً بعدد أصدقائه ومعارفه، ثم صار بعد رحيله في ثلاثينيات القرن الماضي نجماً شعرياً، وأحد شعراء العالم الكبار، ومن المدهش أن كفافي كان معاصراً لأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومطران ورواد التنوير والتحديث لكن أحداً منهم لم يشر إليه.

بسبب التقاعس النقدي والإعلامي وانحسار الاهتمام بالشعر والأدب بوجه عام، لم تضف الحياة الثقافية إلى نجوم الخمسينيات والستينيات عدداً من النجوم الجدد في مجالات الإبداع المختلفة، لذلك لا ينبغي لأحدهم أن يسأل عن الشعراء النجوم المشاركين في مهرجاناتنا الشعرية، فقد انتهى عصر الشعراء النجوم لكن بلادنا لم تخل من الشعراء والمبدعين الكبار.

* كاتب وشاعر مصري

back to top