طيور وخنازير


نشر في 08-05-2009
آخر تحديث 08-05-2009 | 00:00
 محمد سليمان في القرى المصرية كانوا ومازالوا يعتمدون على طيورهم التي يربونها في الحقول والمنازل ويستغنون بلحومها عن اللحوم الأخرى الحمراء التي «تُقسي القلب ولا يقبل عليها ويدمنها سوى الذئاب والوحوش» كما يقولون، وكنا نأكل هذه اللحوم الحمراء فقط في الأعياد والأفراح والمناسبات الدينية وأيضاً عندما تسقط بقرة أو ثور في حفرة أو بئر ساقية وتخرج أو يخرج بساق مكسورة أو جرح بليغ.

كان الآباء في مثل هذه الأحوال يتجمعون ويحاولون بالأيدي أو بالحبال رفع الحيوان المسكين وانتشاله من محنته، وهم يصيحون «سالمه يا سلامه»، سائلين الله سبحانه أن يقف إلى جانبهم ليخرج الحيوان البائس سالماً وقادراً على العمل، وكنّا نحن الأطفال في المقابل نتجمع هناك بعيداً عن مرمى حصا الآباء وشتائمهم ونحن نصيح «حلال الله أكبر»، سائلين الله أن يرأف بنا وينهي صلاحية الحيوان للعمل والجر كي يصل إلى بطوننا.

فالآباء كانوا يُجبَرون على ذبح الحيوان مكسور الساق وتقسيم لحمه إلى حصص متساوية توزع على الأقارب والجيران الذين كان عليهم أن يدبروا ثمن حصصهم وأن يشتروا حيواناً آخر لصاحب الحيوان الذبيح... وكان الآباء يطلقون علينا اسم «الذئاب الصغيرة» ويحاولون إبعادنا عن موقع الحادث أو إسكاتنا دون جدوى.

لم تتغير الأمور كثيراً في القرى المصرية بعد كل هذه الأعوام، فمازالت الطيور تمرح في الحقول والشوارع وفوق أسطح المنازل، ومازال الناس هناك يعتمدون على بيضها ولحومها، خصوصاً بعد موجات الغلاء المتلاحقة التي أخرجت معظمهم من دائرة مُستهلكي اللحوم الحمراء، وعندما تحدثهم عن إنفلونزا الطيور المتفشية وضحاياها يبتسمون ساخرين ومُشفقين عليك لأنك طيب للغاية وتصدق كالبلهاء كلام الجرائد وأكاذيب الحكومة التي لا عمل لها سوى إيذاء الناس ودفعهم دفعاً إلى الخراب! من الطريف أن أحد التقارير المنشورة أخيراً أكد أن 89 % من المصريين لا يثقون بالحكومة وأجهزتها، وبسبب انعدام الثقة فقدت الدولة هيبتها وقدرتها على التوجيه والإقناع، ومن ثم كان الفشل في اقتلاع إنفلونزا الطيور أو محاصرتها، خصوصاً أن للفساد أصابع كثيرة تلعب هنا وهناك.

تحت عنوان «خناقة في مجلس الوزراء حول إنفلونزا الطيور»، قالت إحدى الجرائد المصرية «سادت حالة من الارتباك داخل الحكومة واللجنة العليا لإنفلونزا الطيور بسبب توحش الفيروس وزيادة الوفيات من الطيور ووفاة الحالة 26 بسبب المرض، وأعلن وزير الزراعة أن الحكومة لن تستطيع القضاء على الوباء ما لم يتعاون معها كل المتعاملين في تربية وتجارة الطيور... وفي الوقت نفسه اتهم رئيس المركز القومي للبحوث اللقاحات المستوردة بالمساهمة في انتشار المرض وتوطنه في مصر». القضاء على الفيروسات أمر بالغ الصعوبة بسبب قدرتها على التحور والتطور التي تجبر الباحثين والعلماء في المعامل ومراكز البحوث وشركات الأدوية على البحث الدائم عن لقاحات وأدوية جديدة وفعالة يحاصرون بها الفيروسات أو يقضون عليها، وقد أعلن المركز القومي للبحوث في مصر اكتشاف وتجريب لقاح جديد قادر على مواجهة إنفلونزا الطيور، لكنه شكا من سعي البعض إلى تعطيل إنتاجه وتفضيل اللقاح المستورد، الأمر الذي يفتح الأبواب للظنون والشكوك ويشير إلى أصابع الفساد التي «لا تكل ولا تمل»، كما يقولون في الريف، والتي تدفع الناس إلى التشبث بطيورهم وإخفائها وإدارة ظهورهم لنداءات الحكومة وتحذيراتها.

قبل سنوات ظهر فيروس إنفلونزا الطيور في الشرق البعيد وادعى بعض المسؤولين أنه يخص شرق آسيا ولا علاقة لنا به... لكنه انتقل إلى مصر واستوطنها، وفي الأيام الأخيرة ظهر في المكسيك فيروس إنفلونزا الخنازير الأخطر والأشرس ونشر الرعب والفزع حول العالم بعد أن فتك بالكثيرين في أيام قلائل، وانتقل إلى أميركا وكندا وبعض الدول الأوروبية واقترب من أبوابنا، وقد رفعت منظمة الصحة العالمية مستوى الإنذار إلى الدرجة الخامسة على سُلَّم من ست درجات مما يعني أن العالم لم يعد يفصله عن انتشار المرض بشكل وبائي سوى درجة واحدة، وأعربت المنظمة عن خشيتها من انتقال عدوى إنفلونزا الخنازير إلى مصر بسبب قرب مزارع الخنازير من السكان.

وانطلاقاً من خطورة هذا الفيروس وصعوبة مواجهته، أوصى مجلس الشعب المصري بإعدام الخنازير فوراً في أماكن وجودها، وطالب رئيس الوزراء بتنفيذ توصية المجلس بالإضافة إلى الإجراءات الوقائية الأخرى.

لا شك أن بوسع الحكومة المصرية أن تواجه هذا الخطر إن أرادت، فالخنازير ليست طيوراً يخفيها الناس فوق أسطح المنازل أو في الحقول والقرى البعيدة فمزارعها محدودة ومعروفة وتدل على نفسها، لكن الكارثة قد تقع بسبب الارتباك والبطء والإهمال واللامبالاة!

* كاتب وشاعر مصري 

back to top