مقامرات أميركا الإيرانية!
بدأت الإدارة الأميركية الجديدة تحركاتها الدولية لتصحيح صورة واشنطن في العالم بجولات لوزيرة الخارجية هيلاري كلينتون إلى عواصم متعددة، ولكن أهم اللقاءات سيكون اللقاء المرتقب بينها وبين نظيرها الروسي سيرجي لافروف المزمع عقده غداً في العاصمة السويسرية جنيف. سيدخل هذا اللقاء الفاصل تاريخ العلاقات الأميركية-الروسية كمحطة تعارف أساسية قبل لقاء القمة بين أوباما وميدفيديف في لندن خلال قمة العشرين G-20، بهدف ترميم العلاقات التي تدهورت في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش من جراء إصراره على نصب شبكة صواريخ باليستية في وسط أوروبا بحجة مواجهة قدرات إيران الصاروخية. وتستشعر روسيا الخطر لأن نصب هذه الصواريخ ليس موجها بالأساس إلى إيران بل إلى العمق الروسي وإلى فضاء روسيا الاستراتيجي في الأوراسيا التي عليها يدور الصراع الكبير بين القوى البرية «التيلوروكراتيا» بقيادة روسيا والقوى البحرية «التالاسوكراتيا» بقيادة أميركا (راجع مقالنا هنا في 22 أغسطس 2007).كما أن شبكة الصواريخ قد تكون البداية لانخراط بولندا في الناتو وتسليحها، وروسيا تريد منطقة عازلة في بولندا كما فعلت تاريخياً قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، لأن ذلك ضمانة أساسية للأمن القومي الروسي.كانت كلينتون ونائبها بيرنز قد ألمحا في مناسبات مختلفة أن واشنطن قد تكون مستعدة للبحث في مسألة شبكة الصواريخ الباليستية التي ستنشرها واشنطن في وسط أوروبا وتثير حفيظة الروس؛ مقابل تخلي الأخيرة عن دعم البرنامج النووي الإيراني، وتعد شبكة الصواريخ الباليستية في وسط أوروبا مسألة فائقة الأهمية لروسيا وتفكيكها سيعطي موسكو متنفساً حيوياً في الأوراسيا، ولذلك فالأرجح أن تكون موسكو مستعدة لمناقشة هكذا صفقة مع واشنطن بالتفصيل، والمؤشر على التقدم في المفاوضات حولها سيظهر إبان وبعد لقاء الغد بين كلينتون ولافروف. ولا ننسى هنا أن روسيا لا تملك أوراقاً كثيرة حالياً للدخول في صفقات مع واشنطن سوى الملف النووي الإيراني وصفقات التسلح الإيرانية، لأن موضوع جورجيا الذي حسمته روسيا باحتلال أوسيتيا وأبخازيا أصغر بكثير من أن يكون محلاً لصفقة مع واشنطن بسبب ضآلة جورجيا في السياق الاستراتيجي الكبير وافتقارها إلى موارد الطاقة. من جهتها تريد إدارة أوباما حل مسألة الملف النووي الإيراني بوسيلة مختلفة عن إدارة بوش التي أكثرت من التهديد بضربة عسكرية ضد إيران، ولكنها لم تفعل في الواقع إلا كل ما يصب في مصلحة إيران الاستراتيجية. تنطلق التحليلات الاستراتيجية الأميركية- يمكن ملاحظتها من خلال الندوات الكثيرة التي تعقد في الولايات الأميركية المختلفة بمناسبة الذكرى الثلاثين لقيام الثورة الإيرانية- من أرضية مفادها أن رفع الغطاء الروسي عن إيران سيترك الأخيرة في موقف تفاوضي أضعف بكثير، وهو ما سيسهل مهمة أوباما على إحداث اختراقات في العلاقات الأميركية-الإيرانية وفي الملف النووي الإيراني ومن دون دفع تكاليف سياسية كبيرة. ومن نافلة القول أنه كلما انخفض الثمن الأميركي الواجب دفعه لإيران مقابل ملفها النووي ارتفعت أسهم أوباما وإدارته؛ وكلما استطاع تمرير هذه السياسة في أروقة صنع القرار الأميركي المعقدة. تأمل روسيا عبر الصفقة في الوصول إلى تفاهمات مع أميركا حول القضايا الاستراتيجية الأعمق ابتداء من الصواريخ الباليستية ومرورا بتوسيع الناتو إلى شرق أوروبا وصولا إلى مصير اتفاقات التسلح النووي بينهما. من ناحيتها تحتاج الولايات المتحدة الأميركية أيضاً إلى روسيا كي تجد طريقا بديلاً لطريق باكستان-أفغانستان حتى تستطيع إيصال إمداداتها إلى قوات الناتو العاملة في أفغانستان (راجع مقالنا هنا في 12 فبراير 2009). مثل التعاون الروسي-الإيراني في مجال التسلح وسيلة ممتازة بيد روسيا للإمساك ببعض الخيوط في العلاقات الروسية-الأميركية المعقدة التي يغلب عليها الطابع الاستراتيجي الكوني، وليس التجاري أو الدبلوماسي الاعتيادي. ويمكن متابعة هذه الحقيقة عند كل منعطفات العلاقة بين موسكو وواشنطن، إذ حينها تقوم موسكو بالتلويح بتوريد صواريخ الدفاع الجوي المتطورة من طراز إس- 300 إلى طهران دون أن تفعل ذلك، أو أنها بصدد إتمام مفاعل بوشهر النووي والإعلان الأخير عن موعد التشغيل يمكن رؤيته على أنه وسيلة ممتازة بيد روسيا للتأثير على الملف النووي الإيراني.على الناحية المقابلة سيؤدي الانفراج المحتمل بين طهران وواشنطن– بمنطق الأمور- إلى تراجع في العلاقات الإيرانية-الروسية لمصلحة تقدم العلاقات الإيرانية-الأميركية، ولكن حتى ذلك الحين تتدثر طهران «بغطاء دولي» في مواجهتها للضغوط الدولية. شكلت روسيا غطاء إيران الدولي عندما كان التصعيد الأميركي في أوجه خلال العام 2007 لأن غزو إيران كان سيضر بالمصالح الاستراتيجية الروسية، وروسيا ستخرج خاسرة أيضاً إذا نجحت المفاوضات الأميركية-الإيرانية ولذلك ستعمد موسكو إلى الدخول في صفقات مع واشنطن لقطع الطريق على العلاقات الأميركية-الإيرانية. من ناحيتها ستسعى إيران للانضمام إلى «منظمة شنغهاي» بقيادة روسيا والصين والالتزام بترتيباتها الأمنية لأن ذلك سيقوي وضعيتها الإقليمية، تلك التي تحسنت كثيراً في السنوات الماضية عبر روسيا وليس عبر واشنطن وبالتالي الخروج بأفضل النتائج في الموقف الحالي انتظاراً لتطورات العلاقات الروسية-الأميركية. الأرجح أن طهران ستسعى أيضاً إلى إنعاش دور الوسيط الروسي بينها وبين واشنطن، مع أنها تعلم نوايا موسكو جيداً، وهذا الدور سيفيد روسيا تكتيكياً كما سيفيد إيران مرحلياً لأنها ستربح وقتاً إضافياً لبرنامجها النووي خلال فترة الوساطة. تذكر هذه المساومات ودهاليزها وتشابكات العلاقات الثلاثية بين أميركا وروسيا وإيران عزيزي القارئ وأنت تتابع لقاء كلينتون لافروف غداً، لأنها أهم كثيراً من الابتسامات أمام العدسات!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة