الأندلس حضارة غاربة وتاريخ عريق (5) التأثيرات العربيّة في اللغة الأسبانيّة... تراثٌ خالد

نشر في 15-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 15-09-2008 | 00:00
No Image Caption
تركت اللغة العربية أثرًا لا يمحى في معظم لغات العالم، ليس في المناطق التي انضوت تحت لواء الحضارة الإسلامية فحسب، بل كانت اللغات الأوروبية من مصطلحات «الحضارة» الدالة على مظاهرها المختلفة، سواء المصطلحات العلمية أو الأدبية، لا سيما ما كان يستخدم منها في الإشارة إلى مصطلحات زراعية أو معمارية لم يجد الأوروبيون وقتها ما يعادلها في لغاتهم، فاستعانوا باللفظ العربي بعد تطويعه لضرورات نطق وكتابة أحرف من الشجرة السامية اللغوية في بلاد تسودها لغات تنتمي برمتها إلى الشجرة الأندوأوروبية.

تحتل اللغة الإسبانية المرتبة الأولى في قائمة اللغات الأوروبية المتأثرة بالعربية، وذلك دليل دامغ على مدى عمق الأثر الذي تركته حضارة الإسلام في الأندلس في هذا البلد الأوروبي، على الرغم من أن ملوك إسبانيا لم يتوانوا منذ سقوط غرناطة، آخر معاقل المسلمين في بلادهم، عن مطاردة المسلمين ودفعهم الى مغادرة مدنهم وقراهم، ومن بقي منهم أرغم على إظهار التنصر، خصوصاً بعد الأحداث الدامية والمأساوية التي رافقت نشاط محاكم التفتيش الشهيرة.

لم تتوقف تلك الحملات ضد مظاهر الوجود الإسلامي العربي إلا بعد طرد عشرات الآلاف من الأندلسيين الذين أخفوا أو أدجنوا إسلامهم خارج الأراضي الإسبانية، سواء باتجاه الشاطئ الإفريقي أو نحو العالم الجديد لأميركا اللاتينية، وذلك في ما يعرف بحملات طرد الموريسكيين، وإذا كان معظم هؤلاء حط رحاله على الشواطئ الجنوبية للمتوسط بدءا من المغرب وحتى مصر بكثافة تقل درجاتها كلما اتجهنا شرقا، فإن رفاقا لهم ذهبوا إلى مجهول أبعد من ذلك، اذ أقاموا في القارة الأميركية الجنوبية، ومهما يكن من أمر فقد ترك أهل الأندلس وراءهم تراثا أدبيا وتاريخيا عظيما في ما دونوه باللغة العربية، مستخدمين في ذلك الحروف اللاتينية عن تلك الفترة العصيبة من حياتهم التي عانوا فيها من الاضطهاد الديني، فضلا عما تركوه من آثار معمارية وفنية مميزة إبان مشاركتهم في تشييد عمائر ملوك الإسبان وزخرفتها وفق تقاليدهم الفنية الأندلسية العريقة.

ترجمة

وإذا كان بعض المستشرقين بلغ به الميل والهوى حدا دفعه إلى محاولة التقليل من قيمة تأثير حضارة الأندلس في ثقافة القارة الأوروبية وحضارتها، فإن أحدا من هؤلاء لم يجسر على إنكار تأثير حضارة الإسلام بالأندلس في اللغات الأوروبية المختلفة، وفي مقدمها الإسبانية والبرتغالية.

كذلك رعى الخليفة العباسي المأمون حركة ترجمة التراث اليوناني والآسيوي إلى العربية في اللغة العربية في القرن الثالث الهجري، اضطلع ألفونسو السادس ملك قشتالة برعاية حركة نشطة لترجمة الكتب العربية إلى الإسبانية القشتالية بعد نجاحه في الاستيلاء على مدينة طليطلة عاصمة القوط القديمة عام 1085م، وقد تسربت عبر جهود الترجمة الألفاظ العربية إلى بقية اللغات الأوروبية وعلى رأسها اللغة اللاتينية.

يرجع الفضل في إدخال النصوص العربية في دوائر الدراسات الأكاديمية في أوروبا إلى أسقف طليطلة رايموندو الذي كان كبير مستشاري ملوك قشتالة خلال الربع الثاني من القرن الثاني عشر الميلادي. وحسبما يذكر أرنست رينان فإن عمل رايموندو كان حدثا حاسما كان له أبعد الأثر في مصير أوروبا.

من المعروف أن أسقف طليطلة تولى الإشراف بنفسه على جماعة من المترجمين والكُتَّاب تعرف في تاريخ الأدب الإسباني باسم مدرسة المترجمين الطليطليين وحفز أفرادها على الاهتمام بنقل المؤلفات العربية، وبالفعل قامت تلك المدرسة بترجمة الكتب العربية الرئيسة في الرياضيات والفلك والطب والكيمياء والتاريخ الطبيعي والفيزياء وما وراء الطبيعة وعلم النفس والمنطق والسياسة.

مما له دلالته في هذا السياق، أن أول قاموس عربي لاتيني حرر في أوروبا هو ذلك الذي ألفه رايموندو مارتين (1230 - 1286م) وكان قِسّا اجتهد في تعلم لغة العرب حتى أتقنها للرد على ما أثاره المسلمون واليهود ضد عقيدته المسيحية.

الجدير بالذكر أن الأرقام المستخدمة اليوم في أوروبا (٥ - ٦ - ٤) هي في حقيقة أمرها الأرقام العربية التي أخذها الأوروبيون عن العرب عوضا عن أرقامهم المستمدة من الحروف اللاتينية ،(I-II-III) وحسبما يذكر الأب اليسوعي خوان أندريوس الذي عاش في أواخر القرن 18م فإن الإيطالي ليوناردو البيز هو الذي نقل الأرقام العربية وهو يأخذ من مؤلفات العرب في علم الجبر، وهو الذي أدخل تلك الأرقام إلى أوروبا وعلمها لأهلها.

أما تأثير العربية في اللغة الإسبانية فإننا نراه جليا في العشرات من المصطلحات المستخدمة في تلك اللغة، وفي طليعتها لفظ الجلالة «الله» الذي يتردد صداه فيما يصيح به الإسبان لإظهار الإعجاب بمصارعي الثيران على وجه الخصوص أو للتعبير عن استحسان الرقص والغناء، ومن الشائع قول الأسبان sidios quiere وهي ترجمة حرفية لقول المسلم «إن شاء الله»، وقد بقي من صورة العبارة العربية في اللغة الإسبانية ما يدل على لفظها Oiaia. في الريف الإسباني، لا يزال أهله كلما ودع أحدهم الآخر يقول له ما يقابل في اللغة العربية «السلام عليكم} - alapozdededies.

أصول عربية

مما له دلالته العميقة على عمق تأثر الإسبانية بالألفاظ العربية ذات الطابع الحضاري ما نراه من كثرة المصطلحات الإسبانية ذات الأصول العربية في مجال الزراعة، ولا غرابة في ذلك، فقد وصف أهل الأندلس مؤلفات زراعية عدة لعل أشهرها كتاب ابن حجاج القرطبي الذي أشار إليه ابن البيطار واستعمله ابن العوام صاحب كتاب «الفلاحة» الذي ترجم إلى الإسبانية عام ٢٠٨١م ثم إلى الفرنسية بعد حوالي ستين عاما. يعطينا كتاب الفلاحة فكرة واضحة عن ازدهار الزراعة في الأندلس إذ هو أشبه بدائرة معارف تاريخية عن الفلاحة.

كان المؤلف أبو زكريا يحيى بن محمد بن العوام نفسه من المشتغلين بالزراعة في ناحية أشبيلية.

افتتح ابن العوام كتابه بالإشارة إلى أنه قرأ كتاب فلاحة المسلمين الأندلسيين وكثيرا من كتب غيرهم من القدماء المقدمين، وهو ما يشير إلى كثرة تأليف أهل الأندلس في هذا الفن.

من ألفاظ الزراعة والري العربية الأصل في الإسبانية الســد (Azud) والســاقية (acequia) والبرك (Aldea) والقرية (Alqueria) والسكر (azucat).

أما أسماء الزهور والمحاصيل فغالبها مستمد من العربية مثل الدفلي (Adelfas) والسوسن (Azucemas) والياسمين (Jazmines) والريحان (Arrayan) والحقبة (Aldaheca) والخزامي (Albucema) والبرقوق (Aldricoques) والرز (Arroz) والباذنجان (Betenjenas) واللوبيا (Alubies) والزعفران (Azafran)، ويلحق ذلك ألفاظ تتصل بعادات الأكل وتجهيزه مثل المهراس (Almirag) والمجبنة (Almojabanas) والقهوة (Cafe) والرب (Arrope) .

back to top