القرضاوي وخصومه: من الأمة الدينية إلى الأمة السياسية (4-5) من الحساسيات المذهبية إلى الواقع السياسي

نشر في 13-11-2008
آخر تحديث 13-11-2008 | 00:00
 ياسين الحاج صالح

يتعين أن ينصرف الاهتمام إلى النفوذ الإيراني المتصاعد، في العراق ولبنان بخاصة، أي في بلدان فيها أصلا كتلة شيعية كبيرة أو حتى أكثرية السكان، والأجندة القومية الإيرانية التي يحملها، وليس إلى التحول المحتمل لسنيين إلى شيعة، وهو تحول لا إشكال فيه ومقدر له أن يبقى محدودا حتى لو كانت وراءه حملات منظمة.

إذا كانت أمة الشيخ القرضاوي تبدو طائفة فلأنها فقدت أي مشروع إيجابي تاريخيا، ما جعلها موضع تجاذب بين حدين أقصيين: عدمية تنظيم «القاعدة» وتبعية البلدين «السنيين» الأكبر، مصر والسعودية. قد نذكر أن «الصحوة الإسلامية» التي يحتفي بها الشيخ (والأساتذة أيضا) تلت هزيمة الحركة القومية العربية، وهي تستبطن عداء شديدا لتلك الحركة.

فهل تشكل «أمة» البشري وأبو المجد وهويدي بديلا، أساساً متجددا لمشروع تحرري واستقلالي؟ لربما لاحظنا أنها أمة تعرف بتمايزها عن آخر (أميركي إسرائيلي)، أي بالسلب. وحول السلب تتكون هوية وعصبية وطائفة، لا أمة. وانكفاء العرب السياسي وانعدام وزنهم الدولي يعود فيما نرى إلى استحكام السلبية في وعي قطاعات واسعة من نخبهم الثقافية والسياسية. وإذا استطاع المستشار طارق البشري، المثقف المصري، أن يصف النظام الإيراني بأنه «وطني»، فلنا أن نستدل على مفهوم الأمة الذي يصدر عنه. فنحن هنا خارج مفهوم الدول الوطنية بالكامل هنا. إذ لا تتعدى «الوطنية» التي يوصف بها النظام الإيراني مواجهة عدو «الأمة» الافتراضية التي لا معادل سياسيا لها، «الأمة الإسلامية». فماذا عن الأمة بالمعنى الحديث للكلمة: الدولة والشعب والأرض؟ وماذا عن المواطنة والمساواة بين السكان متعددي الأديان والمذاهب؟ لا نجد كلمة واحدة في تدخلات عند البشري وزميليه. هل السياق لا يحتمل؟ بل الإشكالية التي يصدرون عنها هي التي لا تسمح بغير تركيز هوسي على الوحدة في مواجهة أعداء. فمن سمات الوطنية السلبية أو «الممانعة» هذه أنها تعلي من قيم «الوحدة الوطنية» أو «وحدة الأمة» التي باسمها احتج الأساتذة على الشيخ. والوحدة الوطنية هي الإيديولوجية التي لطالما سوّغت الاستبداد في بلداننا، بل وجعلت من التعامي عن امتيازات دينية ومذهبية وإثنية، بحجة الوحدة ذاتها، فضيلة وطنية. وهي في جميع الأمثلة التي نعرفها، سورية وعراق صدام، وإيران على أرجح تقدير، آلت إلى إعادة إنتاج موسعة للتمايزات الدينية والمذهبية الذي يفترض أنها تعرّف نفسها ضدها.

وليست السلبية الجوهرية لتفكير الأساتذة الثلاثة منفصلة عن فقدان العرب زمام المبادرة التاريخية، واستسلامهم لنزعة الممانعة التي تجمع بين رفض الكوني ثقافيا والميل إلى تعريف الوطنية بدلالة «الخارج»، مع إغلاق «الداخل» التام. لا معادل سياسيا لهذه الرؤية غير استبداد أبوي، لا يختلف عن النظام الحالي في مصر مثلا إلا ببلاغته وتحالفاته الخارجية.

ولم نعرف من الأساتذة الثلاثة على أي أمة يتكلمون. فدال الأمة في ردودهم على الشيخ مرسل، لا يتلوه ما يخصصه. كل شيء يوحي بالطبع أن المعني هو «الأمة الإسلامية» التي تبدو محلقة فوق التمايزات القومية وفوق الدول والأقاليم، وبالطبع فوق الطوائف والمذاهب. وفي هذه الأمة التي لا تعرف تمايزا كل «الأقطار» سواء، على نحو ما تكون «جميع الأبقار سوداء في الليل» حسب المثل الألماني.

وهنا ربما ننصف الشيخ القرضاوي قليلا. ولو أنصف نفسه ربما لتسنى إنصافه أكثر. بعض الانتشار الشيعي يندرج في خطط سياسية منظمة، تقوم بها دولة قومية فتية، لا تظهر ثقافتها الوطنية شيئا من الود للعرب، ثقافة ودولا. ولو ركز الشيخ على أن «الخطر في نشر التشيع أن وراءه دولة لها أهدافها الاستراتيجية، وهي تسعى إلى توظيف الدين والمذهب لتحقيق أهداف التوسع» (حواره المشار إليه سابقا مع «الشرق الأوسط») لكان أكثر إقناعا. فما قد يكون خطيرا ليس تحول سنيين إلى شيعة، ولا اختلافات عقدية قديمة ربما يناسب تناولها في مجامع دينية إسلامية، ولا منافسات مذهبية حديثة... بل هو المخاطر التي قد تصيب السلم الأهلي في بعض البلاد العربية، والاستخدام المحتمل للتشيع أداة للسياسة الخارجية لدولة طموحة، إن وافقت سياستها مصالح الدول العربية المعنية في بعض الأوقات والميادين فهي لا توافقها في أوقات وميادين أخرى، وتتعارض مع مفهوم الدولة السيدة في كل الأوقات. ومن هذا المنظور يتعين أن ينصرف الاهتمام إلى النفوذ الإيراني المتصاعد، في العراق ولبنان بخاصة، أي في بلدان فيها أصلا كتلة شيعية كبيرة أو حتى أكثرية السكان، والأجندة القومية الإيرانية التي يحملها، وليس إلى التحول المحتمل لسنيين إلى شيعة، وهو تحول لا إشكال فيه ومقدر له أن يبقى محدودا حتى لو كان وراءه حملات منظمة. غير أن تحويل الانتباه نحو الأجندة القومية الإيرانية ومفاعيلها المحتملة على استقرار مجتمعاتنا أو على الأوضاع الجيوسياسية في الإقليم لغير مصلحة بلداننا، يحول المسؤولية عن معالجة هذه المفاعيل إلى الدول والسياسيين، ثم الرأي العام الذي لا يشكل رجال الدين مثل الشيخ القرضاوي غير أحد المعبرين عنه.

والصفة القومية للنشاط الإيراني هي ما يفضل ألا يراه البشري وهويدي وأبو المجد بسبب مفهوم يتبنونه للأمة يخفي تفاوتات ومظالم كبرى بين وداخل الدول والمجتمعات، تصمد للمقارنة مع التفاوتات والمظالم التي تعانيها «الأمة» على أيدي أعدائها الذين يهيب الأساتذة بالأمة أن تتوحد في وجههم «كالبنيان المرصوص».

ومن أجل أن رؤية هذا الواقع يتعين الانتقال من «أمة» مصمتة لا تمايز فيها، ومن مقاربة مذهبية وعقدية (الموقف من الصحابة، حديث الفرقة الناجية...) إلى مقاربة سياسية وجيوسياسية، أي إلى العالم الدنيوي، عالم الدول والمجتمعات والسياسات والاستراتيجيات والمصالح. وهذا عالم لا يستطيع الشيخ ولوجه دون أن يجازف بشرعيته، لكن الأساتذة لم يظهروا استعدادا أكبر لولوج هذا العالم ومبارحة تصورهم الرومانسي لأمة لا تعكر صفو وحدتها وقائع الدولة السيدة، وفوارق اللغة والثقافة والذاكرة..، وأوضاع الجغرافيا السياسية والثقافية والاقتصادية ... أي كل ما يدخل في الحساب السياسي العقلاني. فهل ثمة اقتران ضروري بين السلبية السياسية والثقافية، أي الممانعة، وبين المثالية في فهم المجتمعات والدول والعلاقات الدولية؟ نرجح ذلك بقوة. إلا أن هذا المزيج الممانع، المشترك بين الشيخ وأخصامه، لا يعد بغير الصحو على كوابيس مدمرة.

* كاتب سوري

back to top