المحكمة الدولية الخاصة بلبنان: بروليتاريا وأرباب عمل

نشر في 03-03-2009
آخر تحديث 03-03-2009 | 00:00
 بلال خبيز يقولون إن ثمة اتفاقاً سرياً على أعلى المستويات الدولية والإقليمية قضى بتسهيل عمل المحكمة الدولية، على أن تتساهل المحكمة في مضبطة اتهاماتها. اللبنانيون، بعضهم على الأقل، يلهجون بتساؤلات كثيرة: ما الذي حصل الآن حتى يطلق سراح بعض الموقوفين وجاهياً وغيابياً بكفالات مالية؟ وهل يكون إطلاق السراح المشروط هذا من علامات التساهل في ما يخص عمل المحكمة؟ وتالياً هل سينجو المجرم الحقيقي من العقوبة في نهاية الأمر؟

معاقبة منفذي الجرائم السياسية منذ يوليوس قيصر حتى اليوم، تقوم على تسويات سياسية دائماً وأبداًً، ففي السياسة وجرائمها ليس ثمة أحكام قضائية قاطع، ولبنان ليس مستثنى من هذه الحال، إلا إذا كان اللبنانيون يعاملون، دولة ونظاماً ومؤسسات وشعباً، كما لو أنهم قاصرون، وأن الجرائم التي ترتكب بحقهم لا تدخل في مجال الجرائم السياسية، وللبنان وشعبه أسباب كثيرة للتمسك بهذا الاعتبار، فهذا البلد، لم يطمع مرة في أراضي جيرانه، ولا تدخل في شؤون دول أخرى، وأيضاً لم يسبق لسلطاته الأمنية والسياسية والمخابراتية أن استعملت سلاح الاغتيال ضد أي طرف خارجي.

الحكمة تقول: تستعمل الدول هذه الأساليب في صراعاتها السياسية من دون تردد، وليست الحكمة وحدها، بل أيضاً الوقائع، ومع ذلك لم يجرؤ لبنان مرة على استعمال هذا السلاح، ولأننا، شعباً وكياناً ودولة ومؤسسات، عشنا ومازلنا نعيش، بوصفنا مادة للتجاذب، ومسرحاً للصراعات، فربما يحق لنا أن نطالب المحكمة والسلطات الدولية التي تتيح لها تنفيذ أحكامها، بأن تقسو في أحكامها إلى الحد الأقصى توخياً للعدل والإنصاف، ومع ذلك أو من دونه، نحن مبتهجون.

هل انقضى زمن الأحزان اللبنانية مع الإقرار الدولي بالمحكمة حقيقة واقعة وساطعة؟ لا سبب يدعونا للتفاؤل بهذا المقدار. العارفون يقولون إن التفاؤل والتشاؤم لا يزنان في ميزان السياسة مثقال ذرة، لكن التفاؤل والتشاؤم خلافاً لما يعتقد البعض يزنان وزنة راجحة في الاقتصاد مثلاً. إذن فلنبتهج، ليكون ابتهاجنا في خدمة ازدهار اقتصادي. لكننا أيضاً نبتهج في السياسة. هذا بلد لم يستطع طوال تاريخه أن يمارس السياسة مثلما تمارس في بلاد أخرى. حتى المحكمة الدولية لم تمنع استمرار المعادلة المضنية: القانون رخو في تعامله مع كل ما هو داخلي وصلب في تعامله مع كل ما هو خارجي. لا يتحمل قادة البلد وزر اعتماد هذه المعادلة الجائرة، إنها من ضروب تحصيل الحاصل، فلم يحصل أن استطاعت الدولة اللبنانية تجريم من يعتدي على أمنها وسيادتها على أراضيها في الداخل. كانت دائماً رخوة حيال الجماعات الطائفية والحزبية التي تتحكم بالمشهد السياسي منذ ولادة لبنان حتى اليوم، وكانت دائماً صلبة حيال الخارج، لا يلوي عودها حدثان ولا كوارث.

لبنان ليس مخولاً، حتى الآن، وليس قادراً على التفاوض مع إسرائيل حول ما تبقى من المسائل العالقة، لكن سورية قادرة، العراق أيضاً قادر حتى الممكلة الأردنية الهاشمية قادرة على تجريب هذا الخيار، ولبنان ليس قادراً على مخاصمة سورية أو تنظيم الخلاف معها، فالسياسية الخارجية في لبنان أشبه بأعمال القضاء والقدر، ووزراء الخارجية، أقله منذ زمن الطائف، يخضعون لمشيئة الأقدار الإقليمية أكثر من غيرهم.

يفترض بأي دولة أن تدير سياساتها على نحو مغاير، تشدد في التزام القوانين في الداخل وميل إلى عقد التسويات مع الأطراف الخارجية، لكن لبنان يكاد يكون البلد الوحيد الذي لا يستشار قبل إعلان الحرب، وهذا ليس من أفضال «حزب الله» عليه فقط على ما درج منذ ولادته، إذ ليس ثمة حرب حصلت في المنطقة لم يكن لبنان طرفاً فيها شاء أهله ذلك أم أبوا، حتى على الحدود الدولية لا تملك الدولة اللبنانية أن تتمم سيادتها على جانبها من الحدود.

الرئيس حافظ الأسد قال: لم نستشر أحداً في الدخول إلى لبنان، ولم تكن أحزاب الحركة الوطنية وفصائل المقاومة الفلسطينية في وضع يخولها أن ترفض أو تقبل بالتدخل السوري عام 1976. إسرائيل شنت علينا حروباً لم يعد من المجدي إحصاء أعداد ضحاياها، وفي كل مرة كان ثمة من يقول في إسرائيل إن هذه الحروب تصب في خدمة الشعب اللبناني وفي سبيل تحقيق مصالحه المنشودة.

وفي كل مرة كان اللبنانيون يموتون ويتشردون ويعانون الأمرين، لأن ثمة من يهتم لمستقبلهم أكثر مما يهتمون هم. عش رجباً!

وهذا كله، لم يحصل مرة واحدة أن تصرف اللبنانيون جميعاًً بوصفهم أبناء وطن واحد، يتشاركون المسار والمصير. دائماً كان ثمة يد عاملة لبنانية تنفذ سياسات خارجية، ودائماً كان ثمة من يستعمل بعض اللبنانيين وقوداً لتنفيذ سياساته الخسيسة منها وغير الخسيسة.

اليوم ثمة محكمة دولية ستنعقد حكماً، وبعض الناس يقولون إن المحرض والمقرر والمخطط للجرائم التي حصلت سينجو من العقاب، وإن العقوبات ستطاول بعض اللبنانيين ممن لم يكونوا غير بروليتاريا تعمل بأجور زهيدة في خدمة المخططين الإقليميين، وهذا مما يدفع البعض إلى الشك في مصداقية المحكمة، إنما وبافتراض أن هذا هو ما سيحصل، فلا سبب يدعونا إلى عدم الابتهاج، فربما يتعظ اللبنانيون مع إنشاء هذه المحكمة فيدركون أن اليد العاملة اللبنانية ليست بمنأى من العقوبة، وأنه منذ اليوم الذي تنعقد فيه أولى جلساتها ستتحول القوى السياسية التي ارتضت لنفسها أن تتصرف وتسلك كما لو أنها أجير مياوم لدى رب العمل الإقليمي، إلى متهمة ومدانة.

يحق لنا أن نبتهج، ذلك أنه من أفضال انعقاد هذه المحكمة أنها تجبر اللبنانيين تحت طائلة العقوبة أن يكونوا لبنانيين.

حين استقبل الرئيس شارل حلو وفد الصحافيين اللبنانيين في القصر الجمهوري بادرهم بالقول: أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان. اليوم، تطورت الأمور ولم يعد الصحافيون فقط هم من يعتبر لبنان وطنهم الثاني. وربما يجدر بالرئيس ميشال سليمان، أن يستقبل ممثلي القوى السياسية، بعضهم على الأقل، ويخاطبهم بالقول: أهلاً بكم في وطنكم الثاني لبنان. هذا وقد تكون بعض هذه القوى لا تحسب لبنان وطنها الثاني أو الثالث أو العاشر، مع أن قادتها يفاخرون أنهم لا يحملون جنسية أخرى غير الجنسية اللبنانية.

* كاتب لبناني

back to top