دمهم في أعناق الجميع

نشر في 09-01-2009
آخر تحديث 09-01-2009 | 00:00
 محمد سليمان تحرص دولة إسرائيل منذ قيامها من وقت لآخر على ارتكاب مجزرة هنا أو هناك لتذكر الفلسطينيين والعرب بقوتها وتفوقها وقدرتها على السحق والمحق والإبادة وعلى اختراع حقوق لها في أراضي الآخرين وممتلكاتهم، وفي المقابل اعتدنا مقابلة هذه المجازر بالارتباك والانقسام وخطب التخوين وتبادل الاتهامات وإشعال حروب عربية-عربية في الصحف والفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى هدفها تعميق التفكك وإهانة الذات وجلدها وتقسيم العرب إلى ثوريين وعملاء ومقاومين وخونة وهذه الحروب العائلية تشغلنا في النهاية عن مواجهة آلة التدمير وعن إغاثة المنكوبين بالعدوان أو دعم صمودهم.

وما يحدث لغزة وشعبها سوّد وجوهنا خزياً وخجلاً وجسّد أمامنا العجز العربي الهائل وصمت معظم نظمنا وتخاذلها عن إغاثة الشعب العربي في غزة الذي وُضع بين خيارين لا فرق بينهما، أولهما الموت تحت راية التهدئة بسبب الحصار وإغلاق المعابر ومنع الطعام والدواء وأسباب وضرورات الحياة، والثاني الموت تحت القصف بالصواريخ والقنابل الإسرائيلية.

بين موت وموت أُجبر الفلسطينيون على الاختيار ورغم ذلك لم يخجل زعماؤنا الذين جمّلوا وجه إسرائيل وحمّلوا «حماس» وشعب غزة مسؤولية الإضرار بأنفسهم وإرغام إسرائيل على شن الهجوم عليهم بسبب رفضهم تهدئة لم تكن في الواقع سوى أحد أشكال الموت كما بيـّنت.

لست أحد المتعاطفين مع «حماس» و«الجهاد» وفصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى خاصة بعد الانقلاب الدموي على السلطة الشرعية، وفصل فطاع غزة عن الضفة، وكنت ومازلت ضد العمليات الانتحارية، وضد أي اعتداء على مدنيين أبرياء مسلمين أو مسيحيين أو يهود مهما كانت الدوافع لكن الاعتداء الإسرائيلي الوحشي على غزة ومجازره وضحاياه أكبر من «حماس» ومشروعها وانقلابها على سلطة منظمة التحرير قبل عام ونصف، فما يحدث في غزة هو بكل المقاييس إبادة وتدمير مُخطط ومُبرمج، هدفه القضاء على «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى، ومعاقبة الشعب الفلسطيني في غزة الذي احتضن «حماس» ودعمها والتف حولها، واختارها بإرادته الحرة لكي تقود وتوجه وتوقف مسلسل الفساد والاستبداد وإهدار حقوق الشعب الفلسطيني، وأذكر هنا بأوسلو ومسيرة السلام الفلسطينية-الإسرائيلية، وبالمفاوضات التي أسفرت بعد سبعة عشر عاماً عن تضاعف المستوطنات الإسرائيلية في أراضي الضفة وعن بناء الجدار العازل ونهب المزيد من الأراضي الفلسطينية وتهويد مدينة القدس وأذكّر أيضاً بمعارضي أوسلو الفلسطينيين والعرب، ومنهم المفكر الراحل إدوارد سعيد والشاعر الراحل محمود درويش وقصيدته الشهيرة «خطبة الهندى الأحمر الأخيرة» الذي استلهم فيها خطبة آخر زعماء الهنود الحمر «الزعيم سيالث» التي يتحدث فيها الزعيم الهندي المغلوب على أمره عن الآخر القوي الذي يطالبه ببيع أرضه ومائه وشجره وهوائه وتاريخه وأرواح أسلافه بحفنة من الدولارات، وكان درويش يرى بعيني خياله ذلك الزعيم البائس الجالس تحت راية السلام ليوقع وثيقة استسلام ويطابق صورته بصورة المفاوض الفلسطيني وسلوكه وضعفه.

والجدير بالذكر أن الشاعر دفع ثمن معارضته لأوسلو فقد غضب عليه الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، واستبعده من دائرة المريدين والأصفياء وحرمه من راتبه ومخصصاته.

دم مئات الشهداء وآلاف الجرحى في أعناق الجميع، القادة الفلسطينيين الذين انقسموا وتحاربوا من أجل السلطة وحرضوا من أجلها أيضاً أعداءهم وناهبي أرضهم على شعبهم، وهذا الدم أيضاً في أعناق الزعماء العرب الذين سعوا إلى معاقبة «حماس» والتخلص منها، فلاذوا بالصمت وأجّلوا التحرك واتخاذ موقف صارم، ليمنحوا آلة التدمير والقتل فرصة إتمام المجزرة، وفي عنق الذين شاركوا في الحصار بإغلاق المعابر ومنع المساعدات وقوافل الإغاثة الطبية لتعظيم أثر التدمير ومضاعفة الخوف والموت والمعاناة بحجج لا تقنع أحداً، وهذا الدم أيضاً في أعناق الكتّاب والمبدعين والإعلاميين الذين يسعون إلى تحصين مواقعهم ومكاسبهم بلوْم الضحايا وإشعال الحروب العائلية ومديح حكام قادوا بلادنا إلى كل هذا العجز بُحجة المحافظة على الاستقرار، وهذا الدم الأخير في عنق المواطنين اللامبالين والمتقاعسين عن مساندة المنكوبين في غزة وإغاثتهم.

* كاتب وشاعر مصري

back to top