مرح في الظلام عن كآبة تيشخوف

نشر في 26-11-2008
آخر تحديث 26-11-2008 | 00:00
No Image Caption
 زاهر الغافري وصف الكاتب الروسي فلاديمير كورولنكو، تيشخوف بأنه، شاب آسر وموهوب وذو نظرة مرحة الى الحياة، كان ذلك في اللقاء الاول الذي جمعهما، ولم يكن تيشخوف حينئذ قد نشر سوى قصصٍ قليلة، ذات حسٍ فكاهي ودعابةٍ عالية.

وكان تيشخوف ينشر قصصه تلك، باسمهِ المستعار انطوشا تيشخونتي، ومن يقرأ أعمال تيشخوف الاولى لا يملك حقاً إلّا ان يبتسم للتصوير الشيق والمفارقة الساخرة في رسم الشخصيات الروسية.

وكان تيشخوف غالباً ما يصعّد بعض الأحداث الصغيرة، أو التي تبدو كذلك، لتصبح بمنزلة بؤرة العمل، مع ما يتبع ذلك من المبالغة وتضخيم المفارقات، كان هذا واضحاً في أعماله الأولى.

في السنوات الأخيرة عدتُ مجدداً إلى عالم تيشخوف، وخلال كلّ قراءة أكتشف عالماً من الأفكار والرؤى، التفاصيل، والأبعاد الانسانية العميقة والأصيلة في كتاباته.

وما يجعل القراءة ممتعة حقاً، بالنسبة لي هو ذلك الجو الشتائي الكئيب الذي ينقلك إليه تيشخوف، هذا ما كنت اشعر به عندما كنت مقيماً في السويد، كأن القراءة هنا هي نوع من التماهي مع اصقاع روسيا الباردة، و «الليالي البيضاء» بحسب ديستوفسكي.

يمكن لقارئ تيشخوف متابعة التحولات الكبرى، في مسيرة كتاباته، خصوصاً بعد قصته الشهيرة «السهوب»، ثم لاحقاً، في عمله المذهل «عنبر رقم 6» حيث تتأزم الشخصيات لتصل الى حافة هاوية الجنون.

في اعماله الاخيرة القصصية والمسرحية بدا واضحاً، ان تيشخوف ذلك الشاب المرح في أعماله الأولى، قد انقلب مزاجه تماماً، ودخل الى تلك المنطقة المعتمة، السوداء، والتي على أثرها سيكتب أعماله الكبيرة وهي أعمال أغلبها تستبطن الضعف الانساني، وأعماق الحياة، بنظرة سوداوية، وعبر غلالة من الحزن الشفيف، وبشاعرية عالية.

وأغلبنا يتذكر قصة الحوذي، الذي رفض الآخرون الاصغاء الى معاناته، بعد موت طفله.

كأن ألم الروح قد نخر عظامه، فلم يجد غير الفرس في الحظيرة التي أصغت اليه.

واذا كان بوشكين قد أطلق على غوغول وصف السوداوي المرح، فإن المقارنة تبدو عفوية بين غوغول وأوسبنسكي وشيدرين وأخيراً تيشخوف، هؤلاء الكبار الذين ماتوا جميعاً وقد أطبق عليهم داء الكآبة المطلقة.

وقد قرأتُ أخيراً، توصيفاً شيقاً عن قصة الحوذي، وتلك الوحشة التي لا مثيل لها، التي تُستشعر من قراءة القصة، ويُشير هذا التوصيف الى الأبعاد الجمالية في اغتراب الانسان عن مكانه، كأن الغربة هنا هي روسيا والليل الكئيب هو ظرفها الزمني وقدرها الأزلي حينئذ، أما الحوذي فهو يمثل الروح الروسية المتألمة.

back to top