مشروطية المعونة
انتهيت في مقال الأسبوع الماضي إلى التساؤل حول حدود فاعلية شروع الولايات المتحدة في إخضاع المعونة العسكرية المقدمة لمصر لمشروطية ترتبط بقضايا الديمقراطية والمواقف المحتملة للقوى الوطنية المصرية من هذا التوجه. وبوضوح شديد أسجل في النقاط التالية شكوكي حول فاعلية المشروطية وقناعتي بأن القوى الوطنية لا تملك سوى رفضها من دون مواربة:1- نجحت الولايات المتحدة من خلال إخضاع المعونة الاقتصادية لمشروطية تصاعدية في دفع الحكومات المصرية المتعاقبة نحو تحرير الحياة الاقتصادية والتحول بعيداً عن نمط الاقتصاد المدار مركزياً، إلا أن السياسة الأميركية هنا ما كان لها أن تنجح دون تلاقيها إيجابياً مع الموقف الرسمي المصري الذي تطور منذ منتصف السبعينيات باتجاه تفضيل اقتصاد السوق. مثل هذا التوافق الأميركي-المصري يختفي، بل يتحول إلى تناقض جذري حين النظر إلى مشروطية المعونة العسكرية. 2- الرئيس مبارك والجيش ونخبة الحكم يرفضون المساس بالمعونة العسكرية ويرونها بمنزلة حق مكتسب مستمد من التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومصر. معاهدة السلام مع إسرائيل، اتباع سياسات إقليمية شديدة القرب من مصالح الولايات المتحدة، تقديم تسهيلات عسكرية للقوات الأميركية العاملة في الشرق الأوسط، كل هذه أمور وغيرها يدرك الطرف المصري أن واشنطن استثمرتها وتستثمرها للعب دورها المهيمن في المنطقة وأن المعونة العسكرية تأسيساً على ذلك ما هي إلا الثمن الحقيقي الذي يتوجب على القوة العظمى دفعه نظير الخدمات المقدمة. لا قبول إذن لإخراج المعونة العسكرية من سياق تحالف استراتيجي قائم منذ السبعينيات ويخدم مصالح كلا الطرفين، ولا قبول للزج بها إلى أتون ومنحنيات السياسة الداخلية في مصر عبر بوابة المشروطية. 3- يزداد الرفض الرسمي المصري للمساس بالمعونة العسكرية حدةً ويكتسي أحياناً برداء التهديد (غير الموضوعي) بالبحث عن مصادر بديلة للتسلح وتجميد بعض جوانب التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة عندما يلوح في الأفق إمكان الربط بين المعونة وقضايا الديمقراطية. بعيداً عن الخطاب الرسمي المتحدث دوماً عن تدرجية الإصلاح السياسي، لا نية اليوم لدى نظام الحكم في الدفع نحو تحول ديمقراطي حقيقي والتوقف عن الممارسات القمعية والحد من افتئات السلطة التنفيذية على المؤسسات التشريعية والقضائية. لذا فإن مساعي الكونغرس الأميركي إلى فرض شروط للتصديق على المعونة العسكرية تتعلق بالانتخابات واستقلال السلطة القضائية وانتهاكات حقوق الإنسان وإشارات البيت الأبيض إلى أمور مشابهة لا تمثل فقط خطاً أحمر لا ينبغي تجاوزه، بل تدخل في باب الكوارث والمحرمات. 4- الأهم من ذلك، وهنا يكمن مأزق القوى الوطنية المصرية التي ترغب في تحول ديمقراطي حقيقي وتدرك أن القوى الخارجية الحليفة لنظام الحكم تسهم في حمايته واستقراره ومن ثم تمكنه من الاستمرار في ممارساته السلطوية، هو أن للمعونة العسكرية مضامين داخلية وإقليمية شديدة الخطورة يصعب تجاهلها ولا يمكن سوى التوقف أمامها بحذر بالغ. فمن جهة، تحولت المعونة خلال العقود الماضية إلى ضمانة رئيسة لاستقرار المؤسسة العسكرية المصرية وفاعليتها في أداء المهمات المكلفة بها داخلياً وخارجياً. ومن جهة أخرى، مكنت المعونة مصر من الحفاظ على حد أدنى من التوازن العسكري مع إسرائيل وغيرها من القوى الإقليمية. وللأمرين اليوم أهمية كبرى خاصة إن أخذنا في الاعتبار لحظة انتقال السلطة الرئاسية المقبلة عليها مصر خلال الأعوام القليلة القادمة وحالة عدم الاستقرار الإقليمي التي نمر بها منذ الغزو الأميركي للعراق. استقرار المؤسسة العسكرية والحالة الإقليمية يستوجبان إعلاء منطق الحفاظ على الدولة ومصالحها في مواجهة منطق معارضة النظام السلطوي ويستدعيان بالتبعية رفضا صريحا لمشروطية المعونة العسكرية.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي