عمران التدين والمواطنة 2-3

نشر في 13-06-2008
آخر تحديث 13-06-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي مصر تحكمها ثلاثية «العبد والولي الواسطة والإله»، ثلاثية دينية ودنيوية في حالة تواز دائم لا تلتقيان، ولكن يشكل كل منهما الآخر. فكما ذكرت في المقال السابق، هناك مقام الشيخ وقبة الضريح ومقام الحكومة المركزية في القاهرة وقبة مجلس الشعب. هذا الثلاثي كان معنا منذ البدء، وهو يشكل وعينا اليوم. ولدينا ثلاثية (إيزيس- حورس- أوزوريس)؛ إيزيس هي زوجة أوزوريس إله الخير الذي قُتل في مواجهة إله الشر «ست» في معركة فاصلة، قطع فيها الإله «ست» جسد «أوزوريس» وألقاه في النيل. فما كان من «إيزيس» إلا أن جمعت أشلاء الجسد قطعة قطعة، وقيل إنها وجدت آخر قطعة منه عند الشام، ثم جمعت الأجزاء كلها في صندوق ورقدت عليه، فمنحها ابنها «حورس»... صورة أشبه بميلاد السيد المسيح، ميلاد من دون تلاقح جسدي. والناظر إلى صورة «إيزيس» وهي تحمل ابنها «حورس»، المرسومة على جدران معابد الأقصر، لن تفوته ملاحظة قرب الصورة من تلك الصور التي نراها للعذراء وهي تحمل المسيح في كنائس أوروبا، وربما في كنيسة كولون الشهيرة على وجه التحديد.

ولنلحظ المقاربة هنا؛ الأب والابن والروح القدس، إيزيس وحورس وأوزوريس، الإله والعذراء والمسيح. حتى الصليب القبطي اليوم لا يختلف كثيراً عن مفتاح الحياة أو الفتح (Anch) فهو نفسه الصليب الفرعوني، ولكنه انتقل إلى أياد أخرى ومعبد آخر وكهنة آخرين... كما لدينا ثلاثية «الرئيس والسيدة الأولى والابن الوريث» في عالم انتقال السلطة اليوم.

الملفت للنظر حين ركوب القطار من الأقصر في اتجاه القاهرة، هو ازدياد أهمية المحافظة كلما اتجهت شمالاً، ومع زيادة أهمية المحافظة تزداد أهمية الولي، بمعنى أن الأقصر أصغر من قنا، وأن مقام «سيدي عبد الرحيم القنائي» أكبر أهمية من مقام «سيدي أبو الحجاج»، كما أن مسجد القنائي أكثر اتساعاً وأكثر زخرفة وأفخم معماراً من مقام أبو الحجاج الأقصري، ذلك لأن «سيدي عبد الرحيم» يقع في قنا قلب المحافظة الطويلة وعاصمتها، و«سيدي أبو الحجاج» يقع في المدينة التابعة وهي الأقصر، قبل انفصالها إدارياً عن قنا. لذا تنفق المحافظة وكذلك وزارة الأوقاف وتتزايد أموال صندوق النذور في مقام القنائي أكثر من مقام أبو الحجاج. إذن هناك سياسة إدارية تجلب معها حركة أكبر للبشر تجاه عاصمة الإقليم فتزيد من النذور والذبائح في قنا لتصبح أكثر منها في الأقصر وليصبح ضريح القنائي بالتبعية أكبر وأعظم من ضريح أبو الحجاج.

وتزداد أهمية الأضرحة وتتسع المساجد المقامة إلى جوار المقام كلما اتجهنا شمالاً، فمثلاً بعد قنا هناك محافظة سوهاج الأكبر والأكثر تطوراً من قنا تعليمياً وإدارياً وتنموياً، وفيها مقام «سيدي العارف»، هنا نجد أنفسنا أمام صورة تكون فيها ثلاثية (العبد، والولي، والإله) مقابل (المواطن، وعضو مجلس الشعب، والحكومة) أكثر وضوحاً، فبينما يكون مبنى المحافظة في شرق النيل فإن «سيدي العارف» يقع في غربه... وتجد توازياً بين الديني والدنيوي، سيدي العارف إلى جوار السوق وحركة البشر ومبنى المحافظة في الجهة الأخرى. نظامان يعملان في توازٍ ويكمل بعضهما بعضاً، وإلى جوار الضريح قسم الشرطة والمستشفى إلخ.

ونظام الأضرحة في سوهاج وقنا والأقصر يكاد يكون متطابقاً مع النظام الإداري للحكم، فهناك المحافظة وهنالك الولي الأكبر في المحافظة مثل أبو الحجاج والقنائي والعارف، وهناك أضرحة الأولياء الأصغر على مستوى المركز والقرية، بما يقابل عضو مجلس الشعب وعضو مجلس محلي المحافظة، وعضو القرية، واسطة الشعب إلى المحافظ وواسطة العباد إلى الله، الكل في مكان واحد ويؤدي الوظيفة نفسها؛ والعلاقة هنا هي علاقة توسل وذبح للقرابين، لا علاقة مواطنة وعلاقة حقوق وواجبات. ولا يمكن أن تُحل تلك المعادلة إلا بفك الارتباط بين المحافظ والولي الكبير، وبين عضو المحافظة والولي الأصغر، وهذا ما سأفسره فيما بعد.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top