المقاهي

نشر في 27-03-2009
آخر تحديث 27-03-2009 | 00:00
 محمد سليمان في طفولتي قررت أن أصبح درويشاً كبيراً وواحداً من أصحاب الكرامات والمعجزات بسبب أحاديث الجد الذي كان يواظب على الصلاة وتلاوة القرآن والأوراد والتسبيح واستضافة الدراويش وشيوخ الطرق الصوفية في مصر، مؤكداً أن لبعضهم كرامات كبرى كالسير على الماء أو الطيران في الهواء. كولي قريتنا الكبير الذي جاء من المغرب طائراً قبل قرون لكي يبارك القرية ويحرسها، لكن والدي الذي كان لا يحب الدراويش ولا يرحب بهم ويضع بعضهم في صفوف المحتالين، هدد بإلقائي في البئر إن سرت خلفهم أو حاولت تقليدهم. ولكي يبعدني تماما عن عالم الدروشة راح يشدني إلى المقهى لأتابع معه الأخبار والأناشيد الوطنية والأغاني وخطب الرئيس جمال عبدالناصر.

هكذا ساهم مقهى القرية المتواضع قبل نصف قرن في تشكيل وعيي وشدي إلى الواقع وقضاياه، ثم واصلت مقاهي القاهرة في الستينيات والسبعينيات لعب الدور نفسه عندما رحت أتحسس بحذر الريفي أبواب عوالم الأدب والفن والسياسة وأكتشف أن معظم الشعراء والكتاب قرويون مثلي أتوا من حقولهم وقراهم معبئين بالأحلام والحذر والرغبة في اقتحام المدينة والالتصاق بها أو الذوبان فيها.

في القرى

والحقول التي تتدثر بالشك والخوف

والأغنيات الحزينة

يولد الشعراء..

كما يولد القمح والشيح والسيسبان

وحين يشبون يأتون مثل الغيوم

لكي يسقطوا في المدينة.

ارتدت العديد من مقاهي القاهرة، لكن مقهى ريش الذي تحتفل الصحافة المصرية هذه الأيام بمرور قرن على إنشائه كان حتى أواخر السبعينيات بؤرة للنشاط الثقافي، وقاعدة ينطلق منها المبدعون والكتاب الجدد، خصوصاً بعد توقف معظم المجلات الثقافية عن الصدور في السبعينيات، وطرد عدد كبير من الكتاب والمبدعين اليساريين والقوميين والناصريين من وظائفهم أو منعهم من النشر في الصحف والمجلات التي كانت كلها في ذلك الوقت مملوكة للدولة. وكان على المقاهي أن تقوم بدور هذه المجلات التي توقفت عن الصدور، وأن تتحول إلى ملاذات وساحات للحوار الثقافي والسياسي، وأن ترحب بالمبدعين الجدد. وكان لمقهى ريش الدور الأكبر في هذا المجال بسبب شهرته وتاريخه وموقعه الفريد، فالمقهى الذي شيده أحد الرعايا الألمان عام 1908 يقع في قلب القاهرة على بعد خطوات من ميداني التحرير وطلعت حرب، وقد منحه اسمه مواطن فرنسي اشتراه عام 1914 تيمنا بأحد أشهر مقاهي باريس «كافيه ريش».

قبل ما يقرب من أربعة عقود رأيت والتقيت معظم كتّاب مصر البارزين وتوطدت علاقتي بكتّاب وشعراء الستينيات، خصوصاً أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر، وعاصرت الحوادث الإبداعية والسياسية الملتهبة، وقرأت قصائدي الأولى التي قدمني بها صلاح عبدالصبور عام 1971 ثم أمل دنقل عام 1972، واستمعت إلى قصص الراحل الجميل يحيى الطاهر عبدالله الذي كان يحفظ قصصه ويلقيها علينا. ورأيت نجيب محفوظ ويوسف إدريس والشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي، بالإضافة إلى معارك وصراعات لا تحصى واتهامات بالخيانة والعمالة، وقصائد فصحى وعامية تسخر من الكتّاب والمثقفين المشغولين فقط بطحن الكلام والاحتماء بأبراجه من أشهرها قول أحمد فؤاد نجم:

«يعيش المثقف على مقهى ريش

محفلط.. مزفلط .. كتير الكلام

عديم الممارسة .. عدو الزحام

بكام كلمة فاضية

وكام اصطلاح

يفبرك حلول المشاكل قوام

يعيش المثقف

يعيش يعيش يعيش».

ومن الطريف أن رواد المقهى رغم هجاء أحمد فؤاد نجم لهم ظلوا في الوقت نفسه متهَمين بالعداء للنظام الساداتي، وعدهم كتّاب النظام أبالسة ويساريين يستحقون السحق والإقصاء والطرد من الوظائف، لذلك فضل بعض الشعراء والكتاب الابتعاد عن مقهى ريش خوفاً من العواقب. فأبعدوا أنفسهم في واقع الأمر عن بؤرة للنشاط الإبداعي والثقافي وعن كتّاب ونقّاد بارزين أثروا الحياة الثقافية في الستينيات والسبعينيات، وأشار إليهم متهكماً وساخراً نجيب سرور في قصيدته الشهيرة «بروتوكولات حكماء مقهى ريش» عندما قال:

«نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش

من شعراء وقصاصين ورسامين..

ومن النقاد سحالي «الجبّانات»

حملة مفتاح الجنة

قررنا ما هو آت».

وبسبب إغلاقه لأعوام عدة ثم تجديده وتحويله إلى مقهى سياحي ومن ثم انصراف الكتّاب والشعراء الشبان عنه، فقد المقهى دوره وأثره في الأعوام الأخيرة ولم يبق له من ماضيه الحافل سوى صور كبار المبدعين الراحلين التي يزين بها جدرانه.

* كاتب وشاعر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top