ثقافة اللي تجيبه يابيه !

نشر في 04-06-2008
آخر تحديث 04-06-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي «اللي تجيبه يابيه»، قال سائق التاكسي القاهري عندما سألته عن الأجر. وماذا عن العداد الذي تضعه في مقدمة التاكسي؟ «لا يابيه، المرور مايرخصش العربية إلا إذا كان فيها عداد، وعشان كده بنحطه بس ما بيشتغلش». وليه التعب ده؟ قلت للسائق، الحكومة تطالبك بعداد صوري تعرف أنه لا يعمل وأنت تضع العداد في السيارة ولا يعمل؟ يعني إنتو الاتنين بتمثلوا على بعض؟ الدنيا كده يابيه، قالها بحالة من التسليم كمن يتحدث عن قضايا قدرية مثل الولادة والموت. تأملت المشهد! الداخلية والمرور يطالبان السائق بوضع العداد في السيارة، ومن دون ذلك لن يحصل على الترخيص، وهي تعرف تماما أن العداد لن يعمل. إذن هناك اتفاق ليس ضمنيا، إنما اتفاق صريح على أن الموضوع برمته نصب واحتيال من مدرسة «اديني حقي وخلص أنت نفسك مع الناس». الحكومة تركت السائق الغلبان نهبا لمعارك يومية مع كل زبون، معارك تقصر العمر، ولا ذنب للرجل في ذلك. كل ما يريده أي سائق تاكسي هو أن يحصل على ثمن لمجهوده إضافة إلى ثمن البنزين، وكذلك ما يسمى بالـ«depletion» أي ما تتعرض له السيارة من استهلاك على المدى البعيد. في كل بلدان الدنيا يؤخذ هذا في الاعتبار.

في لندن هناك عداد في التاكسي يقول لك في نهاية المشوار إن المبلغ المطلوب منك هو كذا، تدفعه وتترك السيارة، ولا يقل لك السائق حتى شكرا، لأنه أخذ حقه. يشكرك فقط إذا ما أعطيته أي شيء زائد. سعر المشوار يعكس علاقة تراض حقيقية بين السائق والزبون. تخرج من التاكسي ولا تحس بتأنيب ضمير لأنك ظلمت السائق أو بالغضب لأنه ضحك عليك. وضوح تام غير وجع القلب الذي تسببه عبارة «اللي تجيبه يابيه».

«اللي تجيبه يابيه»، عبارة اختزلت في نفسي كثيرا من العلاقات المشوهة في المجتمع المصري المعاصر. مجتمع خلا من أي علاقة تعاقدية واضحة، حالة من الضبابية فيها تسامح وفيها استغفال وفيها تسول أيضا. في مجتمع تغيب فيه العلاقات المحددة القائمة على الحقوق والواجبات، يصبح السلوك العام أقرب إلى التسول وفيه طأطأة للرؤوس، العكس تماما من شعار «ارفع رأسك يا أخي». في معظم الدول العقد هو شريعة المتعاقدين، أما في مصر فـ«إنت وشطارتك». حدثني أحد العاملين في السياحة قائلا إن أحد الزبائن الكبار طلب منه توفير مئة غرفة في فندق مصر لوفد سيأتي إلى القاهرة لإقامة مؤتمر. سأله صاحبنا «ما الميزانية، وما السقف لسعر الغرفة؟» جاءه الرد: «إنت كلك نظر، شوف إنته الموضوع، وأنا عارف إنك حتراعينا». قال لي هذا الرجل متذمرا «في كل بلدان الدنيا هناك وضوح في الكلام، أما عندنا فنقول الكثير، ولا نقول شيئا في الوقت ذاته». ملخص هذا الحوار هو «اللي تجيبه يابيه»، «واللي تشوفه يابيه». لا يمكن لمجتمع أن يتطور وهو يتحدث بلغة أقرب إلى التسول منها إلى الحقوق، لغة في باطنها محاولة للاستغفال والنصب والاحتيال.

عندما تذهب لشراء أي شيء من شقة إلى سيارة إلى «تكتك»، وتسأل عن السعر، يقول لك المالك «كلك مفهومية، شوف إنت تقديرك كام؟ أو تلك العبارة القاتلة «من غير فلوس خالص». ماذا يعني هذا؟ عبارات ضبابية ظاهرها التسامح وباطنها النصب والاحتيال.

القصة لا تخص سائق التاكسي والتمثيلية التي يمارسها هو ووزارة الداخلية والمرور كل يوم «كل يضحك على الآخر»، وإنما إذا ذهبت لترخيص صحيفة، أو ترخيص حزب أو التسجيل لجمعية أهلية، لا تعرف ما حقوقك، تتسول من أمامك في إطار عقلية «اللي تجيبه يابيه، وكلك نظر، واللي تشوفه يابيه».

في هذا السياق الثقافي المحكوم بعقلية «اللي تجيبه يابيه»، لا أدري كيف يستطيع الدكتور يوسف بطرس غالي فرض ضريبة على القطاعات المختلفة من المجتمع. الضريبة كما هو معروف في الغرب والشرق يدفعها المواطن مقابل خدمات في الشارع والحي والمدينة، والضريبة أيضا تعني عقلية الحقوق، عقلية قانونية، وكما تقول العبارة المشهورة «لا ضرائب من دون تمثيل»، تمثيل حقيقي لقطاعات المجتمع المختلفة في الحكومة والبرلمان... لا تمثيل مثل تمثيل سائق التاكسي ووزارة الداخلية. فهل سيذهب الدكتور غالي إلى المواطنين ويطالبهم بضرائب حقيقية؟ أم أنه سيقف على أبواب رجال الأعمال قائلا لهم: «اللي تجيبه يابيه».

قبل الشروع في الإصلاح لا بد من خلق ثقافة الإصلاح، وأول عناصر هذه الثقافة هو سيادة القانون وعلاقة الحقوق والواجبات لا علاقات التسول. عيب كبير أن تقاس الوطنية بمن قام بأمهر وأشطر مشروع تسول للوطن. أول فأس يجب أن تضرب في أرض ثقافة التسول هو القضاء على عقلية «اللي تجيبه يابيه»... والبقية تفاصيل.

* رئيس برنامج الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية - IISS

back to top