أوباما ممتنع عن النقد في عرين الديمقراطية

نشر في 12-12-2008
آخر تحديث 12-12-2008 | 00:00
 بلال خبيز بعد انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة الأميركية بأغلبية كاسحة، علق بعض الصحافيين بأن رسامي الكاريكاتير لن يجدوا بعد اليوم مواضيع للرسم، بعدما كانوا قد عاشوا عصراً ذهبياً في عهد جورج بوش الابن، الذي كثيراً ما تعرض له رسامو الكاريكاتير الأميركيين سخرية ونقداً، وبعيد انتصاره خاضت الصحافة المرئية والمكتوبة في أميركا حملة على السيناتور الديمقراطي السابق جو ليبرمان بسبب تأييده لجون ماكين في الحملة الانتخابية، ولم يتورع بعض السياسيين والأكاديميين عن الطلب من ليبرمان الاعتذار من أوباما على مواقفه السابقة.

وبعد اختيار أوباما هيلاري كلينتون وتكليفها بمهمات أعلى منصب دبلوماسي في أميركا، كتب هنري كيسنجر منتقداً الأصوات القليلة التي تشكك في أوباما، ومؤيداً اختيار كلينتون، ومعلناً في الوقت نفسه، أن فريق أوباما في الحكم بمجمله فريق من العيار الثقيل. وكتب ريتشارد كوهن في الواشنطن بوست أن أوباما لا يحكم من اليسار ولا من الوسط، بل هو يحكم فوق الجميع.

هذه كلها إشارات دالة، وهي تدل بلا لبس على عصيان أوباما على النقد، أقله في المرحلة الحالية، وهو أمر لم يتحصل لرئيس غيره منذ زمن بعيد، فضلاً عن أن عارفي أوباما يقولون عنه إنه ينشد إجماعاً في كل خطوة يقوم بها، ويمكن القول إنه نجح حتى الآن في تجنب أي نقد جدي ومؤثر، ما خلا بعض المقالات التي تنشر في الأقسام الثقافية والنظرية في بعض الجرائد، وهي مما لا يعتد به في ميزان السياسة الأميركية، والأرجح أن صعوبة انتقاد أوباما لا تتحصل له من شخصيته الفذة والقيادية فحسب، بل أيضاً من واقع أن الأزمة التي تضرب المجتمع الأميركي كشفت عن أعطاب بنيوية خطيرة، قد تجعل أي انقسام في الرأي على نطاق واسع شعبياً وعلى مستوى صناع القرار في الولايات المتحدة مؤدياً إلى انهيارات يصعب لملمة نتائجها أو التحكم بمقتضياتها. فالمجتمع الأميركي اليوم، ولأول مرة منذ عقود خلت، إن لم نقل منذ قرون، عاجز عن احتمال الانقسامات السياسية التي ميزته طوال عهد الدولة الديمقراطية فيه. والعجز المماثل هو أقصر الطرق عملياً لتحقيق انزياحات خطيرة عن التقاليد الديمقراطية، قد تعيد رفع منسوب الشوفينية الأميركية على نحو خطير ومباغت. فحين يخاف المجتمع من الانشقاقات السياسية والثقافية ويبدي خشية مضاعفة من نقد الأمل الذي يمثله أوباما يكون قد وصل إلى حافة الكارثة، ولم يعد يفصل بينه وبين هوتها الفاغرة إلا التمسك بحبال الأمل الواهنة التي يمثلها شخص أو حزب أو فئة ما في المجتمع. وبذا يتحول الحاكم من مجتهد يخطئ ويصيب، إلى منزه عن كل زلل، حتى لو كان الزلل بادياً كعين الشمس، وكان الخطأ واضحاً كوجه الصبح. وبذا يتحول الرئيس المنتخب إلى مخلص، بدلاً من أن يكون قائداً لمسيرة، وينتظر منه أن يجترح معجزات بدلاً من إنشاء مسارات متعقلة، والأرجح أننا في مثل هذه الحال، نصبح أمام ضرب من التوتاليتارية المقنعة التي ترد أسباب الفشل، أي فشل، إلى المؤامرات الخارجية والخصوم الداخليين والخارجيين. وعلى نحو ما تتم عملقة أوباما في المجتمع السياسي الأميركي الذي يشهد انكماشاً على نفسه ويبدي سياسيوه واقتصاديوه ومثقفوه تضامناً منقطع النظير وانضواء مطواعاً تحت جناح أوباما، وقد بات، من قبل أن يباشر الحكم، حاكماً فعلياً وأصبح، من قبل استلام مهماته، يحكم من فوق الجميع حقاً.

والحق أن في نسبة هذه المخاطر كلها على الديمقراطية إلى سلوك أوباما نفسه، الكثير من التعسف وقلة الإنصاف. فالرئيس الأميركي الجديد يكاد يكون الرئيس الوحيد منذ عقود الذي يملك صفات القائد السياسي المتمكن، والذي يحرص على إعطاء وجهات النظر كافةً حقها من التعبير وحظها من التأثير، لكنه في نهاية المطاف، بات يملك الكلمة الفصل في الحياة السياسية الأميركية برمتها. الأمر الذي يهدد بخراب الحياة الديمقراطية التي تنعم بها أميركا عموماً والتي تصل أحياناً إلى تنظيم حملات تصل حد الإسفاف والإغراق في الشعبوية، لكن ميزتها الأساسية أنها تمنع تأليه الأفراد، وتخضعهم لمحاسبات يندر أن ينجو أحد من حبائلها المعقدة. لكن ما يجري في أميركا السياسية والثقافية اليوم ليس أقل من صناعة «عالمثالثية» للزعيم الذي يوكل المجتمع حل مشكلاته كلها إلى حكمته وبعد نظره، وفي حال فشل الزعيم في تحقيق المطلوب منه، يأخذ الاجتماع نفسه بالتفتيش عن كبش يفتديه به، لأنه، أي المجتمع، لا يسعه أن يقتل من يعتبره مخلصاً أو أن يعترض على ممثل الأمل.

لقد خبرنا في تاريخنا العربي الحديث مخاطر مثل هذه الإجماعات جيداً، ومازلنا حتى اليوم نبكي الضحايا الذين ذهبوا بسبب تعسف الأمل وطغيان الرجاء.

* كاتب لبناني

back to top