بديل أفضل عن حرب مدمرة أو صفقة ثنائية

نشر في 26-06-2008
آخر تحديث 26-06-2008 | 00:00
 أ. د. محمد جابر الأنصاري طالما أن الإجماع ينعقد بين الدول المعنية في المنطقة على أن المواجهة العسكرية في الخليج بين إيران والجانب الأميركي- الإسرائيلي ستكون حرباً مدمرة لا تُبقي ولا تذر، سيعرف الجميع متى تبدأ، لكن لا يعلم أحد متى تنتهي، كما هو النزيف المفتوح في العراق منذ غزوه عام 2003 حتى اليوم بمضاعفات مقلقة على دول الجوار كافة.

وبما أن الأطراف العربية، خصوصاً، تتخوف، في جانب آخر، من احتمالات «صفقة ثنائية» تتم من تحت الطاولة بين إيران والولايات المتحدة قد تكون على حساب الآخرين في الجوار، والمؤشرات بشأنها غير قليلة والحديث عنها يتصاعد، على الرغم من لغة التخاطب العنيف في الظاهر بين الطرفين، كما هو حاصل بين سورية وإسرائيل رغم المفاوضات الجارية بينهما.

وكبديل ثالث أفضل، فربما كان من المناسب النظر في نموذج «منظمة الأمن والتعاون الأوروبية» الذي توصلت إليه الأطراف المختلفة- وعددها خمس وثلاثون دولة تتراوح بين إمارة موناكو والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي في الأول من أغسطس 1975 وعرف باسم «اتفاق هلسنكي».

لقد كان هذا الاتفاق تمهيداً لإنهاء «الحرب الباردة» بين الجانبين في أوروبا على وجه الخصوص، وإذا كان قد قام على أساس حفظ الأمن بين دوله في الجانبين، فإنه تضمن بنوداً واضحة لا لبس فيها بشأن احترام وحدة الكيان السيادي الإقليمي لكل دولة مشاركة، واحترام حدودها القائمة، والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية، وحل الخلافات بالطرق السلمية، ومراعاة حقوق الإنسان وحرياته الأساسية كحرية الفكر والضمير والمعتقد. ونرى أن الاتفاق على مثل هذه البنود والالتزامات والضمانات لا تقل أهمية عن المحور الأساسي وهو الأمن، لأنها عماد الأمن.

والمطلوب في مشروع كهذا أن تلتقي الدول المعنية المرشحة لعضوية «المنظمة الخليجية للأمن والتعاون» في إطار من الشفافية والثقة التامة بحيث يطمئن الجميع ولا تبقى شبهة صفقات ثنائية بين أطراف على حساب أطراف أخرى.

وسواء طال الزمان أم قصر، فإن وصول دول حوض الخليج إلى مشروع للأمن والتعاون كهذا أمر لا مفر منه، ويستحيل إلغاء طرف لمصلحة طرف، إذا أريد استقرار وتنمية مضمونة دائمة لشعوب المنطقة. وإيران في الواقع هي المستفيد الأكبر من ذلك لتنمية مواردها الهائلة من نفطية وبشرية، وثمة حديث عن مشروع هندي- بين مشروعات أخرى كثيرة- بقيمة 3 مليارات دولار لتطوير الغاز الإيراني، ولا يحتمل أن يتفق الجانبان على مثل هذا الاستثمار الهائل لو كانا يتوقعان الحرب غداً... ثم أن الهند أصبحت شديدة القرب من إسرائيل، وزيارة الرئيس السوري الأخيرة للهند- وبلاده تفاوض إسرائيل- تحمل دلالات لا يمكن تجاهلها.

وليس من الواقعية البكاء على اللبن المسكوب، ولكن من المفيد التذكير بأنه لو كانت منظمة للأمن والتعاون بمنطقة حوض الخليج قائمة بين دوله قبل عقود، لما وقعت الحرب العراقية- الإيرانية المدمرة، وكارثة غزو نظام صدام لدولة الكويت، والاحتلال الأميركي للعراق... إلخ.

غير أن الأمم التي لا تستفيد من أخطائها مكتوب عليها تكرار تلك الأخطاء وإحراق أصابعها من جديد.

ووفق الدبلوماسية الحكيمة لا يتم استبعاد التناقضات. نعلم أن إيران والولايات المتحدة على طرفي نقيض- ولو ظاهرياً- في المصالح والسياسات والرؤية على مدى عقود، وللحيلولة دون صفقة «ثنائية» متوقعة لإنهاء التناقضات والاتفاق على تبادل المصالح قد تسمم العلاقات الإيرانية- العربية، فلابد من جلوس الطرفين النقيضين على طاولة واحدة بحضور الآخرين في الجوار تحت سمع العالم وبصره، للتوصل إلى صيغة جماعية للأمن والتعاون في منطقة حوض الخليج وبمشاركة جميع دوله الأطراف في المثلث الخليجي من العراق إلى إيران إلى المملكة العربية السعودية وأشقائها بمجلس التعاون. وطالما أن الولايات المتحدة، بوجودها ومصالحها في المنطقة ستحضر، فلابد من مشاركة القوى الدولية الأخرى كالاتحاد الأوروبي وروسيا الاتحادية، إضافة إلى القوى الصاعدة في آسيا كاليابان والصين والهند وأي دولة في العالم لها ارتباط أو مصالح بهذه المنطقة الحيوية.

وقد حان الوقت لنقل هذه الفكرة إلى حيز التنفيذ... هذا مع التحفظ في الوقت نفسه بشأن إمكانية وقوع مواجهة عسكرية نعتقد أنها لو وقعت فلا مخرج بعدها إلا بمثل هذا الجهد الدبلوماسي الحثيث الذي لا يُستغنى عنه حتى بعد أن تسوء الأمور، وهو أمر لا يتمناه عاقل في هذه المنطقة، إلا إذا تعمدت جهة ما ذات مصلحة تخريبها وتسميم العلاقات العربية- الإيرانية التي يحرص الجميع على تنميتها على أساس من التفهم والتوازن، فضلاً عن ضرب مسيرة التنمية بمجلس التعاون، خصوصاً، لئلا تبقى أي منطقة عربية بمنأى عن اللااستقرار... وبعض المراقبين يقولون، إن «استعجال» إسرائيل هذه الأيام لتحقيق السلام مع سورية و«التهدئة» مع «حماس» يقصد منه «تحييد» الجهات القريبة من العمق الإسرائيلي لتقتصر ضربتها لإيران- إن وقعت- على المنطقة البعيدة عنها نسبياً في الخليج لتخريبه، وذلك ما يُشتبه أنها تهدف إليه.

في الاتجاه الآخر، وفي تصريح جديد ملفت للانتباه والاهتمام، أدلى به سفير روسيا الاتحادية لدى مملكة البحرين السيد فيكتور سميرنوف لصحيفة بحرينية، قال السفير الروسي: «على الصعيد الخليجي... أود أن أذكر أنه منذ 2004 فإن روسيا تعرض فكرة الأمن في هذه المنطقة التي تقوم على خلق نظام للأمن المشترك بمشاركة أطراف من المنطقة ومن خارج المنطقة. وهذا يتطلب أيضاً أولاً حل تداعيات الكارثة في العراق، والوضع بشأن البرنامج النووي الإيراني؟ ومن ثم بناء الثقة ونظام للضمانات المشتركة في المنطقة، وأخيراً عقد مؤتمر دولي للأمن والتعاون في الخليج، وإنشاء منظمة لذلك».

وأعرب السفير عن سعادة روسيا لتبادل وجهات النظر بشأن هذه المبادرة، «وهذا هو بالضبط الموضوع الذي نريد أن نتعاون بشأنه مع جميع أصدقائنا»- «أخبار الخليج» البحرينية، عبدالله الأيوبي- 12/6/2008، ص 10.

من الواضح أن السفير الروسي يطرح نموذج «مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي» الذي انعقد في هلسنكي بتاريخ 1/8/1975 وكانت له نتائج تاريخية إيجابية في ما يتعلق بمصير الشعوب الأوروبية وشعوب العالم.

وقد سبق لكاتب هذه السطور طرح هذه الفكرة لنظام أمن جماعي في الخليج بمشاركة إيران والولايات المتحدة، إضافة إلى جميع الأطراف التي ورد ذكرها، رغم التناقضات القائمة بينهما، بل هي كفكرة تسهم في حل تلك التناقضات... فالحروب لا تولِّد إلا مزيداً من الخراب.

* مفكر من البحرين

back to top