بقايا كلام قديم

نشر في 13-05-2009
آخر تحديث 13-05-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي قال إن الطريقة التي يتحدث بها عن العالم هي المسؤولة عن حدوثه. فلو أنه قال فراشة لطارت أمام عينيه أجمل فراشة، ولو أنه تحدث عن السحر سحرا، فما يخرج من فمه يحدث حقا... هكذا كان يظن وهو جالس إلى النهر وظهره لقبة ضريح شيخه الذي يعتبره حارسه، كان يخاف أن يتحدث عن أمور مخيفة كي لا تحدث، فكان مقلاً في وحشي القول حتى لا تتوحش العبارة أو تتوحش الدنيا، هكذا كان يظن، وهكذا ظننت.

لم تكن نظريته مقتصرة على الكلام فقط، ولكنها كانت تنسحب على القراءة والكتابة أيضاً، فكان يقرأ من القرآن الكريم ما يظن أنه سيوجد أو قد يظهر، وكثيرا ما كنت أقرأ معه سورة النجم وأنا صغير، وكان يكرر: «عند سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى، إِذ يغشى السدرة ما يغشى»، وكنت أكرر مطمئناً راضياً معه. كان يعتقد بأن تلك لحظة تجليات ما بعدها تجليات، وبالفعل كانت. القراءة حسب ما يستثمر العبد فيها، فإن أضاف إليها من روحه ظهرت وإن لامس سطحها لم تعبر أبعد من سطحه، وكما تكونوا تكون الدنيا بحيواناتها وناسها وزهورها. فإن أظلمت الروح تشرنقت الدنيا وضاقت، وإن تفتحت الروح تفتحت من حولنا الدنيا زهورا وبساتين. وما يقف بين العبد والسعادة إلا طيب القول فيظهر أمامه طيب النبات والإنسان والحيوان. وما تلك بفلسفة بل أسلوب حياة، فسرُ الحياة ما بعده سر، والأسرار خمس لا تنطق كلها حتى لا تهتز العروش... هكذا كان يقول، ويؤكد أن حكمة ذلك تعود إلى بدء الخليقة.

لدي يقين لا يساوره شك، بأن الإنسان لو نجح في تركيب الحروف والكلمات وفك رموزها لكافأه الحق بقدر ما قرأ وقدر ما استثمر من روحه في سبر أغوار الكلمات وكشف طبقاتها. ويقال في الأساطير إن اثنين من الكهنة الشبان كانا يقرآن نصاً دينياً مقدساً في الصحراء وقد بلغ منهما الجوع والعطش مبلغه، لكنهما كانا مستغرقين في القراءة في محاولة منهما لسبر أغوار النص وتركيب كلماته وحروفه تركيباً صحيحاً، وفي واحدة من القراءات فتح الله عليهما، واستطاعا تركيب الكلمات والحروف وهما في أقصى حالة من الجوع والعطش في صحراء جرداء، فخلق الله لهما من الكلمات عجلا صغيراً وجرة ماء، فذبحا العجل وتعشيا به... هكذا تقول الأسطورة القديمة. عجل مطبوخ وجرة ماء بارد خرجتا من الحروف جزاء المجهود الجاد في استخراج الجميل من القراءة.

أما صاحبي الذي كان يجلس إلى النهر وظهره لقبة ضريح شيخه الذي يعتبره حارسه، مازال يظن رغم ما بلغ من العلم ومن السن، بأن الطريقة التي يتحدث بها عن العالم هي المسؤولة عن حدوثه، وأن هذا أمر أكيد لا ريب فيه، لأن الدنيا هكذا خلقت وهكذا تكون، ولكن المحدود من الكائنات لا يرى ولا يسمع إلا بقدر ما أعطى واستثمر في حلو الكلام أو بديع الصور، أما إذا قلب الكلام كما يقلب المرء جواربه، أي قلب الداخل خارجاً، فلن يخرج من كلامه سوى العادم من القول، عادم السيارات والماكينات، ونفايات قول تلوث البيئة والأرواح وتضيق بها الصدور.

إن الكلام هو استخدام الفرد للغة، لذلك فهو يختلف من شخص إلى شخص آخر، في حين أن اللغة قائمة قديمة يشترك فيها الجميع، لها أبجديتها التي لا تزيد ولا تنقص، ولها نحوها وصرفها وأشكال تعبيرها، أما الكلام فهو اجتهاد شخصي يحمل من ذات المتكلم وروحه وطريقته في التواصل مع من حوله، يأتي جميلاً مثله أو يأتي حزيناً مثله أو يأتي قبيحاً مثله، وهكذا.

القول الطيب متى خرج من الشفاه طار كفراشات، وخبيث القول يخرج دخاناً في شوارع المدن المختنقة، دخان قاتم لا يفضه إلا أن يتحدث الناس في طيب الأثر وحلو الكلام، فأتبع بالسيئة الحسنة تمحها، وهكذا ينظف عذب الكلام الأجواء من خبيث القول وعادمه.

وظل صاحبي الذي كان يجلس إلى النهر وظهره لقبة ضريح شيخه الذي يعتبره حارسه، يخرج من فيه قولاً ليناً وكلاماً طرياً، فكان ما يحيط به من العالم جميلا كجمال قوله وعذب حديثه، وهكذا كان يظن، وأظن ذلك معه... وجاءت من ورائنا امرأة بيدها نوى بلح النخيل، سبع من حبات النوى، وألقت بها على الأرض، وبسملت، وخرج من فمها رائحة طيب، وظهر بين حبات النوى بقايا لكلام قديم.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS 

back to top