أذن من الطين وأخرى من العجين

نشر في 21-12-2008
آخر تحديث 21-12-2008 | 00:00
 محمد سليمان الغول والعنقاء والخل الوفي ثلاث خرافات أو مستحيلات تراثية نعرفها ويتحدث عنها الجميع، وبوسعنا أن نضيف إليها مستحيلا رابعاً هو احتفاء الدولة بالكتاب وعلاج المرضى منهم على نفقتها، وهي التي أعلنت الحرب عليهم منذ زمن بعيد وتحلم دائما بالتخلص منهم بإلقائهم في النيل، أو إغراقهم في أعماق الإهمال واللامبالاة، أو ترحيلهم إلى جحيم السجون والمعتقلات بسبب إبداعهم ومواقفهم المناوئة والمعارضة وألسنتهم الطويلة التي يفضحون ويجلدون بها الفساد والاستبداد والتخلف.

لذلك اعتادت الدولة أن تستقبل نداءات الكتّاب المرضى واستغاثاتهم بأذن من طين وأخرى من العجين كما يقول رجل الشارع. واعتادت بمعسول الكلام أن تخدع وأن تسوِّف وتؤجل التدخل لكي تتيح للمرض فرصة الانتشار والتعاظم وتخليصها من كاتب لا تحبه بينما تلهث وتركض بأبواقها وحراسها والمدافعين عن سياساتها إلى أرقى المستشفيات الأوروبية والأميركية.

هذا التقاعس المخجل دفع بعض كتابنا في السنوات الأخيرة إلى توفير الوقت والجهد وماء الوجه والرحيل في صمت كما يرحل شرفاء الناس في القرى والمدن، ودفع البعض الآخر إلى توجيه النداءات إلى بعض المسؤولين العرب أو الأجانب؛ فعولج الشاعر محمد أبو دومة بعد تدخل خادم الحرمين الملك عبدالله في الرياض على نفقة الحكومة السعودية، وعولج المترجم خليل كلفت في روما على نفقة الحكومة الإيطالية،

ثم تدخل قبل أكثر من عام الشيخ سلطان القاسمي حاكم الشارقة وتبرع بمبلغ كبير «20 مليون جنية» لاتحاد الكتّاب المصري لدعم مشروع علاج المبدعين المصريين الذي يرعاه الاتحاد. وقد أثار هذا التبرع لغطا كبيرا في الصحف المصرية قبل عام ومعارك كلامية بين مرحبين به ممن رأوا فيه حلا لمعظم مشاكل اتحاد الكتّاب المالية ودعما لنشاطاته... ومعارضين اعتبروا هذا التبرع مدخلا للهيمنة على الاتحاد وتهديدا لاستقلاله. وبعد انتهاء المعركة ظن معظمنا أن الاتحاد أصبح قادرا على مساندة المرضى وعلاجهم بلا نداءات أو استغاثات.

إلى أن فوجئنا بمرض الروائي والقاص يوسف أبو ريه أحد أهم كتاب السبعينيات وحاجته الماسة إلى زرع كبد وعجز اتحاد الكتّاب عن مساندته بعد قيام وزارة المالية قبل عام بتجميد التبرع الكبير الذي قدمه حاكم الشارقة مشكورا إلى الاتحاد، لأن اللوائح لا تسمح بقبول تبرعات كبيرة. فعدنا إلى نقطة الصفر وإلى توجيه النداءات للدولة، مطالبين وزارة المالية بالإفراج عن التبرع الذي جمدته لإنقاذ الكاتب الذي صدرت له الروايات: تل الهوى- ليلة عرس- عطش الصبار- الجزيرة البيضاء- عاشق الحي، بالإضافة إلى مجموعاته القصصية ومنها: عكس الريح- طلل النار- الصخر العلي- شتاء العرب... وغيرها.

وينشغل أبو ريه في معظم أعماله بتجسيد عالم القرية المصرية وتوظيف الحكاية الخرافية والأسطورة والتراث الشعبي والعربي والفرعوني أحياناً، ساعيا إلى مواجهة الحاضر بالماضي والحدسي بالحسي والواقعي بالخيالي والأسطوري.

فهو يبدأ روايته «عاشق الحي» بهذه البداية السحرية: «كان دسوقي بدران يجلس على المائدة لتناول الغداء مع زوجته سميرة، دخل عليهما قط أسود غريب لم يكن أبدا من القطط التي تتردد على شقتهما، قفز غلى المائدة برشاقة وراح يحدق في العينين المكحولتين للمرأة الشابة، انتبه الزوج لهذا التحديق الدائم فقال له مستنكرا..إيه عجباك؟... خذها.

فاختفت المرأة في الحال وتلاشى الجسد الأسود للقط»... لتبدأ بعد هذه البداية الرحلة الضبابية للزوج بحثا عن زوجته مخترقا عوالم الإنس والجن والحلم واليقظة والتاريخ واللامعقول، وهي الرحلة التي تشكل الرواية وتمنحها تميزها.

بلا موارد تقريبا يحاول اتحاد الكتاب مواصلة نشاطه ومساندة كتّابه، خصوصا المرضى منهم. والإصرار على تجميد تبرع حاكم الشارقة لا يعني سوى الرغبة في إيذاء الكتاب وإذلالهم ودفعهم إلى إراقة ماء الوجه وتوجيه النداءات والمناشدات للإفراج عن حقوقهم وآمل ألا تستقبل هذه النداءات كالعادة بأذن من الطين وأخرى من العجين.

* كاتب وشاعر مصري

back to top