موت النمر التاميلي... ولكن؟
لم تنته حركة سياسية معارضة ومسلحة بتلك القصة المريرة والتراجيدية، ليس لقادتها فحسب إنما لشعب وإثنية كاملة هربت من مناطقها طلبا للأمان بعد أن تحولت إلى دروع بشرية وفق الوكالات الرسمية، ولكن تلك الدروع البشرية كانت لوقت طويل ولواقعها الجغرافي أسيرة للمنظمة التي انبثقت في السبعينيات، وفي خضم حركات التحرر الوطني المسلحة، وفي ظل توازن قوى دولي، وإن كان يومها طرفا النزاع المدعومان من الهند والحكومة والسريلانكية داخلين في حلقة دول معادية للإمبريالية، ولكن مأزق الهند وسريلانكا في تلك الفترة كان يدفع بالضرورة لتخفيف حدة الصراع الدموي، مراعية الحكومة المركزية السريلانكية وجهة نظر جارتها بالتخفيف من عدم استخدام العنف المطلق والأسلحة الثقيلة، أو باكتساح الجيش السريلانكي مناطق التاميل. وكانت الحكومتان الهندية والسريلانكية تراهنان على إمكانية حل مسألة مطالب التاميل بالطريقة السلمية، وتغيير وجهة نظرهم من مطالب دولة انفصالية إلى مطالب من الممكن تلبيتها من الحكومة المركزية بإعطاء الإثنية التاميلية المزيد من الاستقلالية الذاتية في إدارة المناطق التي يتمركزون فيها شمال شرق البلاد.فكان على المنظمات المتعددة من القومية التاميلية أن تنتهي في نهاية المطاف إلى تأسيس جبهة موحدة من عدة قوى حملت اسم «جبهة نمور تحرير التاميل» (إيلام) ولكنها سرعان ما دخلت في صدامات وتصفيات دموية انتهت بانتصار وبقاء «نمور التاميل»، التي تملكتها نزعات التطرف والإيمان بالعنف والكفاح المسلح كطريق وحيد للتحرير من هيمنة الحكومة المركزية السنهيلية، التي احتكرت كل المناصب، وهمشت الإثنيات الأخرى في المجتمع.مهما اتفقنا أو لم نتفق مع أطروحة الطرفين في الاتهامات المتبادلة، فإن العنف المسلح لم يكن علاجا ناجعا وتسبب في تدمير وتطور سريلانكا وتنميتها، فقد تطور عمل «نمور التاميل» واخترق المؤسسات العسكرية والأمنية، فقامت بتفجيرات وعمليات انتحارية كانت من أوائل مخترعيها، وكانت المرأة الانتحارية التاميلية هي النموذج العالمي الفريد، الذي قدم لنا نوعا من العنف النسوي الجديد ألا وهو «المرأة الانتحارية بالحزام الناسف»، هذه الاختراقات والأعمال في مواقع متنوعة في البلاد منح الحركة مكانة خاصة في حقبة كان للكفاح المسلح قيمة متميزة. انتهت تلك الإضاءة الثورية مع تبدل وتغير في الوضع العالمي، ووضع التاميل على لائحة جديدة اسمها المنظمات الإرهابية، ومع خلق تعريفات وتصنيفات جديدة لمفهوم الإرهاب والعنف، انتهت بمحاصرة التاميل دوليا وفقدان الكثير من الدعم السياسي والعسكري.كان على الحكومة السريلانكية المركزية أن تقرر في العقد الأخير إنهاء شبح النمر التاميلي القابع في غابات شمال شرق الجزيرة، والذي كثيرا ما أربك مشاريع تنموية وسياحية هناك، ولا بد من إنهاء ذلك الصراع العنيف الذي دام أكثر من 26 سنة، دفع الأبرياء والعزل من الطرفين ثمنا باهظا، وباتت المناطق الصدامية متخلفة قياسا بمناطق أكثر هدوءا واستقرارا كما هي المناطق الوسطى والجزء الجنوبي والغربي من الجزيرة. الأعداد البشرية التي نزحت من بيوتها وفقدت حياتها، ليست إلا أرقاما وعناوين للوحشية الإنسانية ولضراوة الحروب التي تنتج ضحايا من المواطنين الأبرياء، بشر يقدمون لنا صورة لحضارتنا العارية، وما فعلته الحكومة المركزية من قصف عشوائي للخروج بانتصار عاجل، وما فعلته نمور التاميل من أعمال تطرف قادتها إلى تلك النهاية الكارثية المخزية، دفع شعب بأكمله في النهاية ثمنه، وكان عليه أن يرقص كتعبير عن «فرح مؤلم» ما فعلته الحكومة المركزية التي منعت الإعلام الدولي الدخول لمنطقة المعارك للتصوير وللوقوف كطرف محايد، إن ذلك الطمس للحقائق لن يمنع مستقبلا المنظمات الدولية من تقديم عسكريين كمجرمي حرب، مارسوا اعتداءات بشعة. ستروى حكايات وصور عن هذه الأزمنة، التاميلية، فمن قتلوا ليسوا هم مقاتلي التاميل ونمورها، إنما إثنية تاميلية ضمرت النزعة القومية الاستعلائية العسكرية كراهيتها نحوها، ورغبت في الانتقام والتصفية والانتصار العاجل. من مات في هذه المعركة هم منظمة نمور التاميل، ولكن من بقوا هم شعب تاميلي له إرثه التاريخي العريق الممتد لشبه القارة الهندية، ويتوزع على مناطق عدة في العالم، فإذا ما كانت القومية التاميلية أربعة ملايين إنسان في سريلانكا، فإنهم في الهند وحدها يقدرون بـ60 مليونا، وفي سنغافورة بمئة ألف، وفي ماليزيا بمليونين ومئة ألف وفي كندا بمئتي ألف، هذا إلى جانب أعداد قليلة في الشتات التاميلي، الذي لن يتوقف عن الرقص والغناء لتاريخ من المعاناة وهم يحملون على سفن الإمبراطورية البريطانية للعمل في مستعمراتها المتناثرة، كعمالة رخيصة وبعقود أشبه بالعبودية الجديدة، من أجل مزارع التبغ والشاي والقهوة، التي كانت يومها المنافس الكبير للولايات الأميركية وغيرها من الإمبراطوريات الإمبريالية في العقدين السابع والثامن عشر... لقد قتلت القوة والدموية النمر التاميلي ولكن الشعب التاميلي سيواصل مطالبه بطرق أخرى وباستمرار دون توقف. * كاتب بحريني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء