حكاية 13 عاماً من التجسّس وخيانة نبيل النحاس... الصَّيد السهل

نشر في 11-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 11-09-2008 | 00:00
تميز هذا الجاسوس بطول المدة التي ظل فيها بعيدًا عن أعين الأجهزة الأمنية، وكان سقوطه صدمة أصابت الموساد الإسرائيلي بالذهول، إذ تزامن ذلك مع سقوط شبكات تجسس عدة تعمل لصالحهم، كانت معينًا لا ينضب يتدفق منه سيل من المعلومات المهمة التي بقدر ما تنفعه تضر بالأمن القومي المصري والعربي، وكان نبيل النحاس اكتسب خبرة عالية في أعمال التجسس وجمع المعلومات وتجنيد العملاء، وتحولت مهنة التجسس عنده إلى أستاذية في التخفّي والتمويه والبحث عن مصادر المعلومات، ووصلت إلى درجة عالية من الثقة بمعلوماته عند جهاز الثقة.

من المتفق عليه أن لكل إنسان نقطة ضعف، تمثل ثغرة في تكوينه يمكن بسهولة النفاذ منها إلى أعماقه والسيطرة عليه بسهولة، وقد أجاد رجال الموساد استخدام تلك النظرية وتطبيقها على أوسع نطاق في مجال تجنيدهم للجواسيس، وهكذا كانوا يباشرون كل الطرق في سبيل تجنيد عملاء لهم في كل مكان، فمن كان يبحث عن المال وجد ضالته لديهم، ومن يجري وراء نزواته وشهوته يرمون إليه بالنساء، ومن ضاقت به الحياة في بلده يوفرون له فرصة عمل وهمية تقوده في النهاية إلى حبل المشنقة، وغالبا ما يكون العميل جاهلا في بداية أمره بخطوات تجنيده، ولا يكتشف ذلك إلا بعد الوقوع في الشباك ويعجز عن الخروج منها، فلا يكون أمامه سوى الامتثال وتنفيذ الأوامر، ومن خلال قصص الجواسيس التي يكشف عنها النقاب، نلاحظ أن هناك تشابها كبيرا في وسائل التجنيد، ولا تكاد تختلف إحداها عن الأخرى إلا من ناحية تنوع الأسماء والأماكن والمواقف.

موضوع حلقة اليوم عن الجاسوس نبيل النحاس الذي استعبدته شهواته فغرق فيها، فكان اصطياده سهلاً. تمتد جذور أسرته الى بلدة حاصبيا في الجنوب اللبناني على نهر الحاصباني، انتقلت أسرة والده إلى كفر شيما في منطقة الشويفات جنوبي بيروت، ومن هناك إلى مصر, حيث أقام والده بالسويس، وتزوج من مصرية أنجبت له نبيل عام 1936.

رحلة إلى المغرب

كان نبيل يحمل ملامح والده الشامي الأشقر وعذوبة أمه المصرية، تميز منذ الصغر بذكاء شديد يفوق أقرانه، فتنبأ له الجميع بمستقبل مضمون ونجاح أكيد،

تخرج في كلية التجارة-جامعة القاهرة، وبدأ يشق طريقه في الحياة العملية بعد تخرجه بتفوق، تراوده طموحات كبيرة شأن كل الشباب، ولم يطل به الانتظار طويلاً، إذ سرعان ما عمل سكرتيراً في منظمة الشعوب الأفروآسيوية التي كان يرأسها الأديب يوسف السباعي، وكان عمله كتابة محاضر الجلسات والمؤتمرات عل الآلة الكاتبة، ومن خلال وظيفته وموقعه توسعت علاقاته وتشعبت، وتبلورت شخصيته الجديدة التي نضجت مع ملامح رجولته، وبمرور الوقت استشعر نبيل ضآلة راتبه على رغم أنه تعدى المائة جنيه، وهو مبلغ كبير جدا بالنسبة الى مقاييس تلك الفترة عام 1959، فعمله المرموق كان يتطلب مظهراً حسناً وملابس أنيقة تتناسب ومكانته، إلى جانب حاجته الى الإنفاق على معيشته وملذاته، بخاصة أنه ارتبط بعلاقة حميمة بفتاة إفريقية من كوناكري في غينيا!! كان اسمها جونايدا روتي تعمل مراسلة صحافية لصحف إفريقية وعالمية عدة.

أكثر من إغداقه عليها بالهدايا الى ان تعثرت أحواله المالية، فوجد الحل لديها لإنقاذه من تعثّره عندما عرضت عليه أن يطلب إجازة من عمله في المنظمة، والانضمام إلى إحدى وكالات الأنباء العالمية كمراسل مقابل راتب كبير مغر، وكانت أولى المهام التي أوكلت إليه السفر إلى منطقة الصحراء المغربية، كي يستطيع أن ينقل أخبار الصراع السري الدائر بين المملكة المغربية وموريتانيا، بشأن النفوذ على المنطقة المحصورة بينهما.

كانت سعادته بالمهمة الجديدة كبيرة, حيث ستتاح له فرصة اللحاق بصديقته الإفريقية جونايدا التي سبقته إلى كوناكري، فطار نبيل إلى الدار البيضاء تغمره أحلام المغامرة والثقة في الغد.

في أحد فنادق الدار البيضاء، تعرف اليه رجل مغربي يهودي، عرف منه وجهته فعرض عليه مساعدته لدخول المكان الذي يقصده بالصحراء عن طريق أعوان له في أقصى جنوب المغرب، وكيفية اجتياز وادي درعة للوصول إلى الحدود، فسعد نبيل بتلك الصدفة الجميلة التي ستيسِّر له مهمته، وزاد على سعادته أن صديقه الجديد هذا أعد له وليمة غداء فاخرة في منزله.

في منزل اليهودي المغربي الذي تحيطه الحدائق والزهور، كانت تنتظره مفاجأة من نوع خاص، إنها مليكة، تلك اليهودية المغربية ذات الجمال الفتان الذي لم تره عينه من قبل، والتي بسببها نسى مهمته التي أتى المغرب من أجلها. أحكمت مليكة شباكها حوله، وحولته إلى خادم طائع منقاد لرأيها، من دون أن يشك ولو للحظة في كونها يهودية تسعى لاصطياده في خطة محبوكة ماهرة أعدتها جونايدا سلفاً في القاهرة.

بعدما فرغت جيوبه، وجد أن موقفه أصبح سيئا ومقلقا وهو بلا نقود في بلاد الغربة، وتمنى وقتها لو أنه كان يملك الملايين ليظل إلى جانب مليكة لا يفارقها أبداً، وطمأنته مليكة بألا يقلق، فالفرص المقبلة أكثر من الضائعة. عرضت عليه السفر معها إلى باريس حيث الحرية والعمل والثراء فوافقها بلا تردد، ورافقها إلى عاصمة النور والجمال، ومأوى الجواسيس والعملاء، وهناك كانت الشباك تزداد كثافة حوله للدرجة التي أصبح من المستحيل التحرر منها والفكاك من قبضتها، ولما أيقنت مليكة أنه سقط في براثنها نبهته بطريق غير مباشر إلى ضرورة إدراك حقيقة لا بد من أن يعيها، وهي أنها يهودية تدين بالولاء لإسرائيل حتى وإن كانت مغربية المولد والجنسية ولغتها عربية فرنسية. عندما استقرأ نبيل مستقبله معها وجد أن الصورة مشوّشة، ومع ذلك أقام معها، وكانت تنفق عليه وتعده بتوفير فرصة عمل له من خلال أصدقائها في باريس، كذلك استدرجته للحديث في السياسة فأفاض بغزارة، وأسر إليها بما لديه من معلومات عن المنظمة الأفروآسيوية، وعن أشخاص بعينهم يمثلون رموزاً مهمة في المجتمع الدولي، وحدثها عن علاقاته بكبار المسؤولين في مصر، وكانت كل تلك الأحاديث مسجلة بالصوت والصورة، إلى جانب تسجيلات أخرى أثناء إقامته مع عميلة الموساد.

كان باسكينر ضابط الموساد الإسرائيلي المكلف بالعملية يراقب كل شيء، ويدرس شخصية نبيل بدقة، إلى أن حانت الفرصة المناسبة فعرفته مليكة به، وقدمته إليه على أنه رجل أعمال إسرائيلي يدير شركة كبرى للشحن الجوي تمتد فروعها في كل القارات، وكان رد فعل نبيل عاديًا للغاية، فهو يسعى إلى المال أينما وجد، وسواء تحصل عليه من يهودي أو هندوسي لا فرق، المهم هو الكم.

استخلص الضابط المحنك حقيقة مؤداها أن الشاب المصري يريد المال ومليكة معاً، فتولى أمره وتعهده ليصنع منه جاسوساً ملماً بفنون الجاسوسية، وكانت المناقشات بينهما تبدو طبيعية لا غبار عليها، ثم تطرق باسكينر تدريجياً إلى هويته، وموقف العرب من إسرائيل، واتجاهات الدبلوماسية العربية إزاء الوجود الإسرائيلي في المنطقة. كذلك تطرق إلى عمليات الموساد الخارقة في البلاد العربية، وكيف أنها تدفع بسخاء لعملائها، وتحرص على حمايتهم إذا انكشف أحدهم، وألمح من بعيد إلى التسجيلات الصوتية والأفلام التي بحوزتهم، والأسرار التي تحويها الشرائط، وأنها قد تهلك أصحابها إذا ما وقعت في أيدي المخابرات العربية.

لم يكن نبيل غبياً بالدرجة التي تجعله يجهل ما يرمي إليه باسكينر فاستوعب نواياه ومقصده، وكان تعليقه الوحيد أنه شخصياً يتعاطف مع إسرائيل، وأن تعاطفه هذا عن قناعة تبلورت من خلال قراءاته في تاريخ اليهود، وبذلك اختصر نبيل الطريق الطويل أمام باسكينر، وخطا أولى خطواته الفعلية على درب الخيانة.

أبقى باسكينر مليكة إلى جوار الجاسوس الجديد، فوجودها مهم للغاية في تلك المرحلة الأولى من الإعداد والتدريب، بالإضافة الى أن خضوعه كان مرهوناً بوجودها، إلى جانب آلاف الدولارات التي ملأت جيوبه فأسكرته، وأنسته عروبته وقوميته، فهي تمنحه النعيم ليلاً بينما يدربه باسكينر وزملاؤه نهارًا.

كانت أول دروس الخيانة كيفية استدراج ذوي المراكز الحساسة للحديث في أمور يصعب تناولها، وتتعلق بأسرار الدولة، واستغلال الحفلات والسهرات في الوصول إلى أسرار غاية في الأهمية، إلى جانب ضرورة تزويد الموساد بنسخة طبق الأصل من محاضر مؤتمرات المنظمة الأفرو آسيوية التي سيعود لعمله بها من جديد. كذلك علموه أيضاً كيفية قراءة التقارير والأوراق بالمقلوب على مكاتب المسؤولين الكبار عند زياراته لهم، واختزان الصور والرسوم والمعلومات التي يطلع عليها بذاكرته، ثم يقوم بتسجيلها كتابة بعد ذلك، وكيفية مراقبة المواقع العسكرية على الطريق ما بين القاهرة والسويس وكتابة تقارير وافية عن مشاهداته مهما كانت تافهة، ويقوم بإرسالها بواسطة الحبر السري إلى أحد العناوين في باريس الذي هو مقر الموساد المختص بجواسيس الشرق الأوسط، ويقوم بتجميع الأخبار والتقارير التي تفد إليه من قبرص وأثينا وبروكسل وروما فيرسلها بدوره إلى تل أبيب.

المخرب

بدأ النشاط التجسسي الفعلي لنبيل منتصف عام 1960. عاد إلى عمله بالمنظمة، وكانت وظيفته ساتراً طبيعياً يختفي خلفه، فلا يثير أية شبهات من حوله، واستطاع من خلال علاقاته المهمة استخلاص معلومات لا يتوقف سيلها، كانت تصل إلى المخابرات الإسرائيلية أولاً بأول، ومقابل ذلك يأتيه بدل مادي كبير يتسلمه في القاهرة بطرق ملتوية عدة.

بعد عامين تقريباً، استدعي إلى باريس في مهمة عاجلة، حيث كان بانتظاره باسكينر، الذي عهد به إلى ضابط إسرائيلي آخر استطاع تدريبه على كيفية ترويج الإشاعات والتأثير سلباً في الرأي العام من خلال تجمعات الأوساط المختلفة في مصر، ولقنه الكثير من أساليب الحرب النفسية والتأثير السيكولوجي، اعتماداً على لياقته ومقدرته الفذة على الإقناع، إلى جانب ترسيخ فكرة الخوف من الإسرائيليين لدى المحيطين به، واستبيان آرائهم تجاه العدو وقدرات الجيوش العربية على مواجهته.

بعد مرور أعوام عدة، أصبح نبيل من أنشط جواسيس إسرائيل في مصر، لقد نسى مليكة، ولم يعد يعرف لها وجهاً بعدما أدت مهمتها خير قيام، بينما انشغل هو بجمع أموال الموساد التي هيأت له فرص التعرف بكثيرات غيرها، فالأموال طائلة والوثائق المهمة لها ثمنها الباهظ، والنساء أشكال وألوان!

في مرحلة أخرى من مراحل صناعة الجواسيس المحترفين، أعد له برنامج تدريبي أكثر خطورة في بيروت، إذ أُخضع لدورة تدريبية بواسطة خبير متفجرات عميل للموساد، فتعلم كيفية صنع المتفجرات وتفخيخ الرسائل والطرود والتخفي والتمويه والهرب والتنكر.

لقد أرادوا أن يخلقوا منه جاسوساً فاعلاً وخبيراً في الأعمال الإرهابية والتدمير في مصر، وكان الخائن أشد قابلية للتشكل والتمحور وتنفيذ مخططات العدو ولو بقتل الأبرياء، لذلك تعاون بإخلاص مع الموساد في تهديد الخبراء الألمان، الذين يعملون في المصانع الحربية المصرية لإنتاج الصواريخ والأسلحة المتطورة، بتوجيه الرسائل المتفجرة إلى بعضهم، بالاشتراك ضمناً مع وولف غانغ لوتز، عميل الموساد الشهير، (أفردنا له الحلقتين الرابعة والخامسة من السلسلة باسم «الحصان») ومع أنه ألقي القبض على لوتز، كما رأينا سابقا، فإن نبيل لم يتوقف عن نشاطه التجسسي والتخريبي، واحتل مرتبة الصدارة لدى المخابرات الإسرائيلية في المنطقة، وقام بدور حيوي في نقل أسرار عسكرية وحيوية إلى إسرائيل قبل نكسة يونيو 1967، ساعدت العدو في اجتياح الأراضي المصرية واحتلال سيناء، واعتبر نبيل نجاح إسرائيل في هزيمة العرب نتاج تعاونه معهم وإمدادهم بوثائق خطيرة وتقارير تشكل الصورة الواقعية للعسكرية المصرية.

عام 1968 أفرجت مصر عن لوتز في صفقة مع إسرائيل للإفراج عن عدد كبير من أسرى الحرب لديها، وأحس نبيل بالزهو، فالصفقة منحته قدراً هائلاً من الثقة في مخابرات إسرائيل التي لا تترك جواسيسها وعملاءها نهباً للقلق، إذ تسعى لمبادلتهم وبأي ثمن حماية للجواسيس الآخرين الذين يعملون في الخفاء، ويتملكهم الرعب عند سقوط أحدهم في قبضة المخابرات العربية.

اطمأن نبيل أخيراً على مستقبله في حالة سقوطه، فسوف يُبَادل هو الآخر ليعيش بقية حياته في إحدى الفيللات الرائعة في إسرائيل، ينعم بالأمن وبالأموال الكثيرة.

ذلك الهاجس الذي عاشه، جعل منه خائناً خطيراً لا يتورع عن بيع أي شيء ذي أهمية لإسرائيل، وكانت زيارته إلى تل أبيب حلماً يراوده، وأملاً ينشده. أراد أن يرى إسرائيل من الداخل ويتجول بين مدنها ويتخير لنفسه بيتاً مناسباً قد يسكنه ذات يوم، وأعدوا له برنامجاً مشحوناً ينتظره قبل زيارته لإسرائيل بأسابيع عدة، وأثناء وجوده في أثينا كانت خطة سفره اكتملت.

في غفلة عن الأنظار، اختفى نبيل فجأة من فندق بوزايدون... وفي المطار كان ثمة رجل أشقر تغطي وجهه نظارة سوداء، ويرتدي معطفاً ترتفع ياقته لتخفي بقية وجهه، يحمل جواز سفر إسرائيلياً باسم شاؤول ياريف ولا يتحدث مع أحد، خطواته الواثقة قادته إلى السيارة التي أقلته حتى طائرة العال الإسرائيلية الرابضة على الممر، وعن قرب كان يتبعه رجل آخر لا يبدو أنه يعرفه، إنه باسكينر ضابط الموساد الذي خلق منه جاسوساً محترفاً، وفي مطار بن غوريون كانت تنتظره سيارة ليموزين سوداء ذات ستائر، سرعان ما دلف إليها، فأقلته إلى مكان لا يعرفه سوى قلة من ضباط الموساد الذين استقبلوه بحفاوة بالغة.

في مكتب رئيس الموساد الجديد زيفي زامير، كان اللقاء أكثر حرارة، إذ ترك زامير مكتبه وجلس قبالته يتأمل وجهه العربي الصديق، وعرض عليه خدمات الموساد فاختار الخائن أولاً أن يلتقي بالسيدة غولدا مائير، فصحبه إلى هناك حيث اصطف أكثر من خمسة وعشرين جنرالاً إسرائيلياً لتحيته، واحتضنه أحدهم قائلاً له

أهلا بك في وطنك إسرائيل!!

صافحته مائير بحرارة وأمرت بتلبية كل مطالبه ولو كانت مستحيلة. قالت لزامير: شكراً على هديتك الرائعة التي جلبتها لإسرائيل، وعلق الخائن قائلاً: «لم أكن أحلم قبل اليوم بأكثر مما أنا فيه الآن، أشعر أنني بين أهلي، ويكفيني هذا الشعور سيدتي»، وأمرت له رئيسة الوزراء بمكافأة خاصة قدرها خمسة وعشرون ألف دولار من مكتبها، بخلاف ما سيحصل عليه من أموال الموساد».

في الفيللا التي نزل فيها كانت هناك مفاجأة مدهشة.. إنها مليكة تلك العميلة المحترفة التي أوقعت به صيداً سهلاً في شرك الجاسوسية لصالح الموساد، جاءت لتكافئه على إخلاصه لإسرائيل.

ستة عشر يوماً بين ربوع إسرائيل قضاها نبيل زائراً عزيزاً، عاد بعدها إلى أثينا بآلاف الدولارات التي كوفئ بها من إسرائيل، والتي زادته شراهة في الخيانة، وعبقرية في جلب المعلومات، فالمنطقة العربية تغلي كبركان على وشك الفوران والشعب العربي يغلي مطالباً بالثأر، وحالة ترقب في إسرائيل وانتظار لصحوة المارد العربي الذي سقط يتلوى يبغي الوقوف والصمود.

النهـاية

كانت المهمة بالنسبة الى نبيل أشد صعوبة على رغم سنوات الخيانة والخبرة، وعلى رغم احتضان مصر له لم يحفظ لها الجميل فبادر على الفور في استكشاف النوايا المصرية تجاه إسرائيل، ونشط في جمع أدق المعلومات عن تسليح الجيش، والمعدات الحديثة التي تصل سراً من الاتحاد السوفياتي ودول الكتلة الشرقية، وانغماسه بصحبة فتيات الليل كان يجلب له بعض المناصب والعارفين بالأمور العسكرية.

من خلال تلك الحفلات، كانت المعلومات تتناثر هنا وهناك، فيلتقطها بعقل واع يقظ ويدوِّنها، ويبعث بها في الحال إلى مكتب الموساد في جنيف، وعندما تلقى رسالة مشفرة من رؤسائه تطلب منه معلومات مركزة عن حركة ميناء الإسكندرية، لم يتأخر في تنفيذ الأمر، وأسرع إلى الإسكندرية للقاء صديق له يعمل في شركة تمارس نشاطات بحرية، وأغدق عليه بالهدايا الثمينة، فانتبه صديقه لذلك وتساءل مع نفسه «لماذا؟» فادعى جهله بأمور تجري بالميناء لكنه وجد إلحاحاً من الخائن يطلب منه تزويده بما يخفي عنه، بحجة عمله كمراسل لوكالة أنباء دولية، لكن صديقه الذي يعرف معنى الوطن انتابته الشكوك، فبادرعلى الفور بإبلاغ المخابرات المصرية ووُضع العميل تحت المراقبة الشديدة.

بعد نصر أكتوبر 1973 صُدم الخائن لهزيمة إسرائيل، وفي روما عنَّفه ضابط الموساد واتهمه بالإهمال الجسيم الذي أدى الى هزيمتهم الساحقة أمام العرب، وأقسم له الخائن أنه لم يقصّر، ولكن الضابط كان ثائراً ولم يستطع أن يخفي انفعاله وغضبه لدرجة أن نبيل تخوف من فكرة الاستغناء عن خدماته للموساد، لذلك عاد إلى مصر في الرابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 1973 حانقاً، وبداخله تصميم قوي على «تعويض» هزيمة إسرائيل، وتملكه بالفعل اعتقاد بأنه أهمل في عمله ولم يكن دقيقاً في نقل نوايا المصريين.

بنشاط مجنون أخذ يبحث عن مصادر لمعلومات وإجابات يحمل أسئلتها، وفي غمرة جنون البحث، كانت المخابرات المصرية تلاصقه كظله وتريد ضبطه متلبساً بالتجسس.

في 24 نوفمبر(تشرين الثاني) 1973، بعد عشرة أيام من عودته من روما، اقتحمت المخابرات المصرية شقته في القاهرة، وضبطت أدوات التجسس كاملة، فلم يستطع الإنكار وانهار باكياً أمام المحققين، وأدلى باعترافات تفصيلية ملأت مئات الصفحات، وهو لا يصدق أنه سقط بعد 13 عاماً كاملة في مهنة التجسس التي أجادها واحترفها. قدِّم إلى المحكمة العسكرية وظل لآخر لحظة ينتظر المفاجأة، مفاجأة مبادلته والعودة إلى وطنه إسرائيل، لكن خاب ظنه، فالجيش المصري كان هو الغالب المنتصر في أكتوبر (تشرين الاول) 1973، والأسرى كانوا تلك المرة جنوداً إسرائيليين، وليس هناك أمل لمبادلته على الإطلاق، وانتهت رحلته إلى حبل المشنقة.

back to top