علم يشبهنا!

نشر في 28-01-2009
آخر تحديث 28-01-2009 | 00:00
 د. مأمون فندي لفت نظري في حملات التظاهر لأجل غزة أن بعض أعضاء الحزب الوطني المصري في لحظة حماس، طبعوا علم مصر مقلوبا في واحدة من محافظات الدلتا ووزعوه على المتظاهرين، ورغم الامتعاض الشعبي من هذا السلوك، فإنني لا أستغرب ما حدث، فالعلم المصري لا يشبهنا. في الاحتفالات الدولية تبرز كل دولة بألوانها ورموزها، فعلم البرازيل أصفر وأخضر، وعلم الأرجنتين أزرق، وعلم إسرائيل عليه نجمة داوود، إلا نحن فلا علمنا ولا رموزنا تشبهنا في شيء، لا نعرفها نحن ولا يتعرف عليها غيرنا. العلم المصري لا يشبه أي شيء مصري. أحمر وأسود وأبيض. مرة بصقر في الوسط ومرات بنسر، وأخرى بنجمة أو نجمتين أو ثلاث، ترى ما هي علاقة هذه الألوان بمصر؟ لا الأحمر لوننا ولا الأسود، وليست لدينا صقور أو نسور، اللهم إلا وجه حورس. حورس ذلك الوجه المرسوم على طائرات مصر للطيران، رمز لا تخطئه العين، في أي المطارات كنت ستعرف أن هذه الطائرة مصرية، رمز يربطه العالم كله بمصر، لكنه ليس لون علمنا. حورس يميز الطائرة ولا يميز العلم.

مصر مليئة بالرموز التي تميزها عن غيرها من البلدان، ولو طلبت من طفل في الابتدائية أن يرسم رموزا تعبر عن مصر لرسم شريطا أزرق محاطا بالأخضر على جانبيه ومن ثم بالأصفر، الأزرق كعلامة لمجرى النيل الذي يخترق مصر من أعلاها إلى أسفلها، وعلى ضفتيه شريط أخضر، ثم الصحراء من بعد بلونها الأصفر. أما لو طلبت الشيء ذاته ممن هم في الإعدادية أو الثانوية، لربما رسموا الأهرامات الثلاثة، أو معبدا فرعونيا... رموز كثيرة من وحي جغرافية المكان أو تاريخه تأتي طواعية على ذهن الطفل أو الشاب، ولكن الأحمر والأسود والنسر بالتأكيد ليست من بينها.

قلت هذا الرأي صراحة في جلسة غداء، كان قد دعاني إليها واحد من سفراء مصر في واشنطن يومها، وكان يحضرها رجل قُدم على أنه- لا أذكر بالضبط- إما ضابط مخابرات سابق أو مازال في الخدمة. يومها قال الرجل وباستنكار شديد لما طرحته، إن هذا العلم هو الذي حاربنا تحته في حرب أكتوبر، وسيظل هذا العلم خالدا كخلود النصر. لم أكن أعرف أنني قد دخلت في المحظور بطرح سؤال بريء كلون العلم.

بالطبع في الجلسات الحكومية، لا صوت يعلو فوق صوت الحكومة، ولا صوت يعلو فوق صوت رجال الأمن، ما عليك إلا أن تقول «تمام يافندم». كانت حجته سخيفة، ولكن قوة السلطة هي التي تعطيه قوة المنطق وتخرس الآخرين. تمسكت برأيي، وما كان من السفير يومها ومعه الضابط إلا أن نظرا إليَّ وكأنني خنت الوطن لمجرد التفكير في هذا الأمر. كانت نظراتهما أشبه بنظرات حمار وقف في مفرق طرق، ولمن لا يعرف عالم الزراعة، فتلك هي نظرات الحيرة والورطة.

أعلام مصر تغيرت مرات عدة، من أعلام الدولة العثمانية التي كان يسود فيها اللون الأحمر وبداخله هلال واحد أو هلالان أو ثلاثة أهلة حسب الفترات المختلفة، إلى علم أسرة محمد علي بلونه الأخضر الإسلامي وفي وسطه هلالان، إلى علم أنور السادات بصقر قريش، إلى علم اتحاد الجمهورية العربية، إلى علم 1984 الباقي معنا حتى الآن. بصراحة لا أرى أي علاقة بين مصر، وبين ألوان كل هذه الأعلام. وأعتقد أن هذا حقي. العلم يجب أن يرمز إلى شيء يدل ولأول لحظة على البلد الذي يرفع هذا العلم، أما أن تكون الألوان تجريدية ومبهمة، فهذا عبث.

أذكر أيام الصبا أنهم كانوا يقولون لنا، ان السواد في علمنا هو رمز العهد البائد، وأن البياض فيه هو رمز العهد الجديد، أما الأحمر فهو لون دم الشهداء. ألا ينطبق هذا على كل بلدان الدنيا وثوراتها، التي كان فيها عهد بائد وعهد جديد وحروب ومعارك وشهداء، فما خصوصية مصر هنا؟

بالطبع في المجتمعات الدكتاتورية، ومجتمعنا بلا شك واحد منها، لا يمكن لك أن تجرؤ وتتساءل عن أي شيء أو أن تشكك في أي شيء. وعندما أقول الدكتاتورية لا أعني الحكومات فقط، الدكتاتورية عندنا تغولت وأصبحت ظاهرة اجتماعية. لم تعد الحكومات في حاجة إلى أن تصبح دكتاتورية، لأنها نجحت في أن تجعل كلا منا دكتاتورا صغيرا يصادر رأي زميله وجاره نيابة عن الحكومة. قمة نجاح النظام الدكتاتوري هو في قدرته على خلق مجتمع يشبه النظام، بدل أن يكون النظام هو الذي يشبه المجتمع.

المهم في هذا كله، هو أنني أقول إن ألوان علمنا لا تعبر عن مصر المكان والمكانة، فمصر الممتدة في الزمان والراسخة في المكان، تستحق علما يرمز لها اليوم وغداً وحتى نهاية الزمان. علماً ما إن يراه المصري أو الأميركي أو الفرنسي حتى يعرف وللوهلة الأولى أنه علم مصر، كما هي الحال مع طائرات مصر للطيران المميزة برأس حورس. نريد علما «يشبهنا» من الشبه... لا علما «يشبهنا» من الشبهة.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top