التقدم من الاستبداد إلى الطغيان
عمل أرسطو على تمييز الاستبداد الفارسي عن الطغيان الإغريقي. فالاستبداد عنده ثابت ومستقر، يعتمد على رضوخ الرعية واستكانتها إلى السلطة الوحيدة التي عرفتها، ولا تعرف شرعيةً مغايرة لشرعيتها. في حين يكون الطغيان اغتصاباً بيناً وسلطة أقل ثباتاً وديمومة، تُمارَس بالإكراه والتعسف. والاستبداد ظاهرة شرقية، لأن الإغريق قوم لن يحتملوها طويلاً. ثم عالج مونتسكيو ظاهرة الاستبداد في ما بعد، وقال إنها غير معروفة في الغرب في عصره، لأن الملكية كانت ملتزمة قانوناً تستند عليه بالمنطق نفسه لتشريع سلطتها أيضاً. لذلك كان يُقال إن الطغيان الغربي حين مال إلى التحول إلى استبداد مستدام، عجّل بقيام الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، التي مرّت البارحة ذكراها السنوية.هذا الميل والتحول إلى الاستبداد حلم باطني لأي حاكم في العالم الثالث، أتحفنا بدول متفرقة هنا وهناك، تتحرر من الاستعمار أو تطرأ عليها سلطة تختلط سلطويتها ببرامج شعبية لا تلبث أن تتلاشى وتضمحل.في الشرق المذكور من حيث هو عربي، هنالك استبداد ابتدأ استبداداً، واستبداد متحوّل عن طغيان، باستعارة المنهج الأرسطي المذكور أعلاه. يحلم الأول بالاستمرار والتأقلم مع العالم المعاصر، ويحلم الثاني الحلم ذاته، مع الاستقرار على الاستبداد وتحويله إلى النمط الأول. للأول مصاعبه و«آلامه»، وللثاني مأزقه العنيد.فالشرق عموماً لم يعد شرقاً مختفياً خلف جدار أو بعد طريق حرير طويل، فكيف بشرقنا القريب المطروق ذهاباً وإياباً، الذي يمكن سماع أنينه بوضوح في الشاطئ الآخر للمتوسط، وأصبح يسمع بنفسه ما يجري في العالم يومياً. العولمة تشبه في هذا المجال فطاماً جديداً للإنسان.لم يعد الركود ممكناً. ولم يعد الاستبداد ممكناً أيضاً، والمسألة مسألة وقت. نعرف أننا مظلومون بتأخرنا عن الركب الإنساني، لكن ما ينبغي أن نعرفه الآن هو أننا أيضاً لأنفسنا ظالمون. فعلى أساس أن الطغيان طغيان لأن الناس تحت وطأته لا يمكن أن يقبلوا باستمراره، على عكس الاستبداد، فما يُخرجنا من ذلك «الشرق»، والشرق منه براء، هو التزام أخلاقي بالتغيير، وانطلاق من كرامة الفرد إلى حراك الجماعة البشرية، وتغيير ما بأنفسنا حتى يتغير ما بنا.وربما من هنا تأتي طمأنينة الحكام المستبدين إلى استقرارهم. وهم يقولون- نحن سمعناهم مراراً- إن شعوبنا لا تسير إلاّ على هذه الطريقة، وهذا جذر «خصوصيتنا». إن كانت الاستكانة طويلاً قد أخّرت يقظتنا، فالعالم الآن لا يحتمل هذا التأخر، لأنه أصبح مشروع قرية تتبلور بالتدريج وعلى ثبات. هو نفسه الذي رعى استبدادنا، بعد أن أصبح فواتاً لا يتناسب مع «البروسيس» الكوني الجديد اقتصادياً وسياسياً ومعرفياً. حالياً، هنالك معضلة عالمية في السياسة الدولية تتعلق بنا في «الشرق». فبعد ممارسات السياسة الأميركية نهايةَ الحرب الباردة أولاً، ثم إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر خصوصاً، باتجاه متهور ومرتجل، كما هو الأمر في المراحل الانتقالية عادة، انتعشت شعارات نشر الديمقراطية وقيم الحرية وحقوق الإنسان، وعانت فشلاً وثغرات فاضحة أحياناً... بعد ذلك، تتقدم الآن مفاهيم التدرج والحوار نسبياً إلى أمام، ابتداء من تقرير «بيكر- هاملتون» وحتى أطروحات المرشحين الحاليين للرئاسة الأميركية، وبشكل يحمل ملامح إعادة نظر على كل حال. وانعكست الإشكالية في فرنسا بشكل أكثر تعقيداً. جاءت إدارة جديدة، تميل إلى «الحوار» لأسباب تكتيكية على علاقة بالبرامج السياسية التي مالت يميناً في المسألة الاجتماعية، ويميناً أيضاً في الموقف من دخول تركيا في الاتحاد الأوروبي. فاقترح ساركوزي مشروع الاتحاد الأوروبي- المتوسطي، ويجهد في كسب الداعمين له. من أجل ذلك يمكن له أن ينسى الحرية والمساواة والإخاء قليلاً في ذكرى الثورة، ولعبة السياسة قاسية لا ترحم. لا ترحمنا نحن خصوصاً، مع أن الدعة والمسالمة في قلب «سياستنا»، والحوار في السياسة الدولية أساس في فهمنا لها، مع التمسك بكلّ ما يتعلّق بحقوق الإنسان والشرائع الدولية.رغم ذلك، لا يُبقي الشرط الدولي من دعامات الاستبداد الراكد شيئاً، وهو يدفعه بدأب في اتجاه «تشريع» نفسه، وليس له إلى ذلك من سبيل حاسم. هذا الشرط يفعل خيراً من جهة أخرى، إذ يعيد إلى المعادلة توازنها، ويجعل الرفض والنقد والحراك الداخلي أساس التحول والتغيير.وهذا قادر حتى في بداياته الحالية أن يجعل من الاستبداد طغياناً، وينقلنا من فارس إلى اليونان. ثم لعلّه ينقلنا إلى الأمام أيضاً نحو مفهوم الدكتاتورية الروماني الأكثر رحمةً، حيث التفويض محدود بزمن لا يمكن تجاوزه.بذلك يكون الدكتاتور متقدماً على الطاغية، والطاغية متقدماً على المستبد، ولا حول ولا قوة حتى الآن.* كاتب سوري