
على الرغم من المحدودية الراهنة لقواعدهم المجتمعية وضعفهم التنظيمي وقسوة القيود الرسمية المفروضة على حركتهم، تمتلك قوى اليسار العربية- إذا ما استثنينا تلك المتناثرة في بعض دول مجلس التعاون الخليجي- فرصا اجتماعية ومساحات سياسية حقيقية لصياغة رؤى بديلة لتوجهات نخب الحكم ولقناعات الإسلاميين ومن ثم للتحرك الشعبي الفعال. تعاني المجتمعات العربية اختلالات اقتصادية واجتماعية طاحنة أبرزها الفقر والبطالة والأمية وانهيار مستويات الخدمات الأساسية المقدمة في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة وتهافت شبكة الضمان الاجتماعي. وقد عمّقت سياسات تحرير الاقتصاد والمقاربات النيو ليبرالية التي اتبعها العديد من نخب الحكم منذ التسعينيات وعلى نحو تصاعدي خلال الأعوام القليلة الماضية من هذه الاختلالات ودفعت بالقطاعات الشعبية الفقيرة ومحدودة الدخل نحو لحظة تأزم حقيقية. أما الحركات الإسلامية وفي مقدمتها جماعات الإخوان فمازالت تفتقد للقراءة الواضحة لكيفية التعامل مع الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية وتتأرجح في مقولاتها البرامجية ومواقفها العلنية بين نزوع شبه ليبرالي يعول على السوق والقطاع الخاص ونزوع شبه يساري يريد التأسيس للدولة القوية الوصية على المجتمع أو استعادة سطوتها. هنا يملك اليسار المنظم حزبياً وكذلك فعاليات اليسار الجديد الحاضرة في المجتمع المدني وداخل حركات الاحتجاج الاجتماعي ومنظمات حقوق الإنسان فرصة حقيقية لصياغة رؤية بديلة تدفع إلى الواجهة بقضايا العدالة والمساواة وتكثف النقاش حول العقد الاجتماعي المفقود في بلاد العرب وحاجتنا الماسة للتوافق بشأن كيفية تقليص الفجوة متزايدة الاتساع بين الأغنياء والفقراء والحد من البطالة والأمية وضمان حد أدنى من الحياة الكريمة للمواطنين جميعهم. على صعيد ثان، لم يرتب رفع نخب الحكم للافتات الإصلاح والانفتاح الديمقراطي خلال الأعوام الماضية نقلات إيجابية في مجال ممارسة الحريات السياسية والمدنية أو احترام حقوق الإنسان. كذلك لم يؤد تصاعد حراك الإسلاميين وتنامي وزنهم السياسي إلى اتساع مستدام لساحات المنافسة الحزبية، وعجز الإسلاميون في الأغلب الأعم عن وضع ضغوط فعلية على النخب للإصلاح الديمقراطي وصياغة خطاب يعتمد الديمقراطية دون تحفظات. تدني مستويات ممارسة الحريات السياسية والمدنية، وتراجع مصداقية لافتات الإصلاح الحكومية والإسلامية يتيحان لقوى اليسار الاعتماد على قضايا مثل: حرية التنظيم الحزبي والنقابي، وضمانات نزاهة الانتخابات، وحق المواطنين في التعبير الحر عن قناعاتهم وممارسة النشاط العام كمرتكزات لدورهم في الحياة السياسية في المجتمعات العربية. الشرط الأساس هنا هو إنتاج خطاب ديمقراطي واضح المعالم يستند إلى مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية والتعددية وتداول السلطة وحكم القانون ويتجه في ممارسة متسقة إلى المواطنين، خصوصا أولئك المحرومين سياسياً ومدنياً أكثر من غيرهم كالأقليات والنساء. أخيراً، لا شك في أن حالة الاستقطاب بين نخب الحكم والإسلاميين أدت إلى هيمنة لغة المعادلات الصفرية ومقاربات الأبيض والأسود التسطيحية على مجمل النقاش العام والحياة السياسية. وواقع الأمر أن العديد من سياسيي وحركيي اليسار قد وقع في شراك هذا التسطيح نفسه، فليست النخب بمكوناتها جميعها وليس الإسلاميين على اختلاف قناعاتهم بشَرٍ خالص، بل إن التعثر البادي للمقاربات النيو ليبرالية يشجع العناصر المسؤولة اجتماعياً داخل النخب على المطالبة العلنية بتغيير المسار الاقتصادي. وينطبق الأمر نفسه على معتدلي الإسلاميين الباحثين عن التزام استراتيجي جدي من جانب حركاتهم بالديمقراطية وبتفعيل مبدأ العدالة المركزي في الرؤى الدينية للمجتمع والسياسة. نعم هناك في اللحظة الراهنة غلبة بادية لتوجهات رسمية وإسلامية إما ذات تداعيات سلبية على مجتمعاتنا وإما عديمة الفاعلية. إلا أن البحث عن إمكانات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والتحول الديمقراطي، إن أريد له أن يكون واقعياً وجاداً، لا يستطيع أن يتجاهل التفكير المنظم في مساحات المشترك مع نخب الحكم والإسلاميين ومن ثم تحديد المفردات والمضامين المحتملة للتنسيق والتعاون معهم بشأن قضايا العرب الرئيسية.
* كبير باحثي مؤسسة «كارنيغي» للسلام- واشنطن