الدين والشرعية السياسية 3

نشر في 26-05-2008
آخر تحديث 26-05-2008 | 00:00
 د. حسن حنفي

النظم السياسية العربية الحاكمة نوعان: ملكية وعسكرية، فكلا النظامين لا يستمد سلطته من الشعب، ولا يقوم على البيعة العامة واختيار حر للناس كما حدد القدماء «الإمامة عقد وبيعة واختيار»، وكلاهما «ثيوقراطي» البنية، وقادر على كل شيء يعلم ويقدر، يسمع ويبصر.

أما القسم الثاني من الأنظمة العربية تجاه الجماعات الإسلامية فيعترف بشرعية الحركات الإسلامية وقبولها أن تكون طرفا في التعددية السياسية والمسار الديمقراطي، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، وقبول تداول السلطة على الأقل في الشكل من حيث الإعلان والبداية، وقد تكون النتائج والنهاية مختلفة، وتنتهي إلى نفس مأساة الجزائر. فقد قبلت الأردن والكويت واليمن والمغرب ولبنان التعددية السياسية. ودخل الإخوان المسلمون في الأردن وحركة الإصلاح في اليمن والكويت الانتخابات. تزداد مقاعدها في دورة ثم تقل في دورة ثانية بعد أن يدرك الناس أن الشعارات لم تحل شيئا، وأنه لا فرق بين عشائرية في السلطة وجماعات إسلامية في المعارضة، فكلاهما يحكمهما نفس المنطق، الحكم والسلطة، بصرف النظر عن البرامج السياسية والتغير الاجتماعي، لم تستطع الحركات الإسلامية الوصول إلى الحكم إلا في المغرب وتركيا وإيران.

فتجربة المغرب في تداول السلطة مشهود لها، من حزب الاستقلال إلى الاتحاد الاشتراكي إلى حزب العدالة والتنمية. وحدث نفس الشيء في تركيا من الأحزاب القومية إلى حزب رفاه إلى حزب العدالة والتنمية. وفي إيران تتجاذب الحياة السياسية والبرلمانية الصراع بين المحافظين والإصلاحيين. ونظرا لعدم حصول أي من القوى السياسية في هذه التجارب شبه الديمقراطية على الأغلبية المطلقة التي تساعدها على الحكم، فإنها دخلت في حكومات ائتلافية وجبهات وطنية مع باقي الأحزاب مما يساعد على تحويل الحركات الإسلامية شعاراتها الدينية إلى برامج سياسية واجتماعية تتقارب أو تتباعد مع باقي البرامج السياسية لباقي الأحزاب.

والنظم السياسية العربية الحاكمة نوعان: ملكية وعسكرية، قريش والجيش. الملكية تستمد شرعيتها من الوراثة: مات الملك، عاش الملك. والعسكرية تستمد سلطتها من الانقلاب العسكري أو ثورة الجيش المباركة، أي القوات المسلحة حامية الدستور، وحارسة النظام. ومنها يكون الرئيس. يتوارث الجيش الرئاسة التي أصبحت حكرا عليه، وأصبحت الجمهورية الملكية موضوعا للتندر والفكاهة الشعبية في الحياة اليومية، تحول العسكري إلى ملكي، ولكن ظل الرئيس العسكري هو صاحب السلطة التي يستمدها من الجيش. وله كل السلطة ولا يحتاج إلى نائب يفوّض له بعض السلطات ولو الشكلية، لأنه لا يوجد أحد من ملايين شعبه يستحقها وقادر على أدائها.

والحقيقة أنه لا فرق بين النظامين في وراثة السلطة وتوريثها، العسكرية محصورة في الجيش، والملكية محصورة في العائلة المالكة، وتتعدد الواجهات الديمقراطية من مجالس الشورى والشعب والأمة والبرلمان، والتزييف هو الشائع. ونجاح الرئيس والحزب الحاكم بنسبة 99.9%. وتزوّر كشوف الانتخابات، وينتخب الأموات مع الأحياء سواء كان ذلك بإشراف قضائي أو من دون إشراف، وتكون النتيجة الطعن في الانتخابات بل حل المجالس النيابية لعدم شرعيتها بقرار من المحكمة الدستورية العليا.

وكلا النظامين لا يستمد سلطته من الشعب، ولا يقوم على البيعة العامة واختيار حر للناس كما حدد القدماء «الإمامة عقد وبيعة واختيار». كلاهما «ثيوقراطي» البنية، اختيار إلهي، باسم الله أو باسم السلطان، وكلاهما قادر على كل شيء يعلم ويقدر، يسمع ويبصر، يتكلم ويريد، وكلاهما له شرعية من أعلى، وتنقصه الشرعية من أسفل. والجماعات الإسلامية لها شرعية من أسفل عن طريق الخدمات للناس وليس لها شرعية من أعلى أي من القانون والاعتراف الرسمي بها.

وتستمد النظم القهرية خصوصا العسكرية منها شرعية لها عن طريق الدين باسم تطبيق الشرعية الإسلامية. وهو أمر محبب إلى ثقافة العامة وتشدد النصيين. ويصبح الحاكم العسكري الذي يستمد شرعيته الفعلية من الجيش الذي قام بالانقلاب حامي حمى الشريعة والمحافظ على تطبيقها «إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». وتسانده الجماعات الإسلامية المحافظة التي تعطي الأولوية للشكل على المضمون، وتعتبره الحاكم العسكري الذي يعلن بلسانه تطبيق الشريعة الإسلامية خامس الخلفاء الراشدين أو إمام المسلمين إلى آخر الألقاب التي تزخر بها ثقافتنا القديمة. وهو يصالح الأعداء، وينقلب من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص، ويزداد البون الشاسع بين الأغنياء والفقراء، ويوضع المعارضون له في المعتقلات. ويتكرر نفس الشيء في باكستان- ضياء الحق، وفي السودان-النميري، وفي نظم شبه الجزيرة العربية.

أصبح تطبيق الشريعة الإسلامية ووضع لجان برلمانية لذلك وإعطاء المثل على ذلك بقطع أيدي الفقراء السارقين أمام أجهزة الإعلام المحلية والغربية تخويفا للداخل وإقناعا للخارج بالحاكم الدموي القادر على قهر الشعوب. أما سارق الملايين من المعونات الأجنبية ومهربها خارج البلاد في حسابات خاصة فلا تقطع يده.

وفي الشريعة يوقف الحد إذا لم تتوافر الأسباب والشروط وحضرت الموانع مثل الفقر والبطالة والجوع والعري والنوم في العراء، بل يُحاسَب الحاكم نفسه لأنه لم يوفر للناس الأمن والغذاء والسكن والعمل والعلاج وإشباع الحاجات الأساسية. ويطبق الحد على الجميع، الحاكم قبل المحكوم، والغني قبل الفقير، وإلا أصبحت الأمة «إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذ سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد».

ولا ضير أن تضيع وحدة الأوطان بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية في الأقطار التي شمالها مسلمون وجنوبها مسيحيون أو وثنيون مثل السودان وتشاد ومالي ومعظم الدول جنوب الصحراء. فالحاكم الشمالي الذي أتى بانقلاب عسكري أو مدني يمارس أنواع القهر القبلي أو العشائري. ويعطي لنفسه شرعية الحكم باسم الدين وليس باسم الوطن، ومن مظاهره تطبيق الشريعة الإسلامية شمالا وجنوبا وهو ما يتنافى مع الشريعة الإسلامية ذاتها التي لا تطبق إلا على المسلمين. ولكل طائفة أن تحكم بكتابها، وهو أيضا ما قد يتنافى مع أصول الحكم الحديثة التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات. والحكم الشرعي هو تعليق تطبيق الشريعة حفاظا على وحدة الأوطان، وتساوي المواطنين جميعا أمام القانون.

* كاتب ومفكر مصري

back to top