من يهدينا لحماً وفحماً للشواء؟

نشر في 17-05-2008
آخر تحديث 17-05-2008 | 00:00
 بلال خبيز نجح التوتير الذي يلف البلاد من الجنوب إلى الشمال، فبيروت والبقاع في نزع أعصاب الممانعة في البلد وتهيئته على نحو ممنهج للكسر أمام أول محاولة اعتداء خارجية.

قد لا يدرك قادة «حزب الله» بعد هذه المغامرة المرة، أن المناطق التي استقبلت النازحين من الجنوب والضاحية لم تعد هي نفسها، وأن المشاعر الفياضة التي قوبل بها هؤلاء النازحون من قبل الذين حيدت الحرب مناطقهم، باتت شحيحة إلى درجة لم تعد تروي الكثيرين. وإدراك هذا الأمر يعني في السلوك السياسي أن «حزب الله» يحتاج أن يبني في تلك المناطق ظهيراً أهلياً، مادام هو من يحتكر ويحشر المقاومة في أبناء طائفته التي يمثلها، والحق أنه من دون استئناف النار الإسرائيلية على البلد، فإن العبور بين المناطق اليوم يشبه، في ما يشبه، عبور المواطن من دولة إلى أخرى. لقد استفحل التوتير الأهلي وتجلى الانقسام الحاد بين المناطق والطوائف. هذا التوتير كان فعلاً جماعياً، ولا يستطيع أن يخرج نواف الموسوي غداً علينا ليقول إنه ليس طرفاً فيه، وإنه من فعل العصابات الأميركية والصهيونية وحدها. وبهذا النصر الباهر والنظيف الذي يجب أن يشكر عليه قادة «حزب الله» الميدانيون فرداً فرداً، نزعت كل أعصاب الممانعة اللبنانية في وجه أي أطماع خارجية. العدو أصبح في الداخل، وتحول الخارج، كل الخارج، إلى أصدقاء يدعمون مشاريعنا وتوقنا إلى التحرر والاستقلال عن بعضنا أولاً، ثم من وطننا. اليوم ليس ثمة ما يريد أهل بيروت التحرر منه سوى خوفهم من تجدد الاقتتال في الشوارع والأحياء بسبب الاختلاط السكاني الطائفي في المناطق التي يعيشون فيها، لهذا ثمة سباق محموم مع الوقت لتحصين هذه المناطق أهلياً وجعلها غير قابلة للاختراق. اليوم يحسد أبناء الحمرا أهل عائشة بكار على قلة الاختلاط الذي يشهده حيهم، وأبناء عائشة بكار يحسدون أهل الطريق الجديدة على الصفاء والنقاء الذي ينعم به حيهم ولا ينعم به حي آخر من أحياء بيروت. بيروت المختلطة والمفتوحة اليوم تحلم في أن تتحول ضاحية من ضواحيها، صافية العرق والنسب ومقفلة على كل غريب. حسناً فليجاهر بالنصر من يحب أن يصنع من كل كارثة انتصاراً.

بلد موعود بالكسر والخلع

هذا الربيع كان حزيناً، واللبنانيون ما كانوا يستحقون كل هذا الحزن، لكن ما جرى قد جرى، وعلينا أن نحصد نتائجه على دفعات. ثمة حساب عالق بين الحشود، ويريد كل حشد تصفيته بالطريقة الوحيدة التي لا تجيد الحشود غيرها: الكسر والخلع. بلد موعود بالكسر والخلع. هكذا يبني السياسيون أمجادهم، بالكسر والخلع. لكنهم أيضاً يعدون الناس بالإصلاح بعدهما. سيجبرون ما انكسر ويضمدون ما تخلع، لكنهم يريدون أولاً أن يجربوا الكسر والخلع مرة أخرى، ليثبتوا سطوتهم على حيواتنا الهشة والقابلة للكسر. الذين اكتووا بنار الحرب الأهلية زمناً ومازالت ذاكراتهم مدماة ومحرّقة يعرفون أن حيواتهم هشة وتكاد نسمة الجنوب تكسر عظامهم الرقيقة. ليسوا في حاجة لمن يذكرهم بمجد الصولجانات التي تمد سلطانها على أعمارهم أولاً، ثم على مستقبلهم ومستقبل أولادهم. لكن البعض يريد لهؤلاء أن يجربوا الكسر مرة أخرى. ذلك أن تذكر الألم أمر يختلف عن الألم نفسه. طوبى للمقاتلين الذين يستطيعون أن يستسلموا إذا ما دعت الحاجة إلى الاستسلام، ولا أحد يستطيع لومهم على قلة شجاعتهم وهم يواجهون قرويين في الجبل لا يملكون غير أرضهم يدافعون عنها. وحدهم المواطنون في هذا البلد المنتصر والمتشاوف على أهله وجيرانه، لا يستطيعون الاستسلام، وعليهم أن يجربوا الكسور مرات ومرات من دون أن يدلهم أحد على نهاية لهذه الدرب الوعرة. لو يدلنا أحد على السبيل الأنجع للاستسلام، استسلام نحفظ فيه أرواحنا دون كراماتنا. لكن فضيلته، أي الاستسلام، أننا في ظله نعرف أننا نعيش في حمى القادرين على الكسر والخلع، وأنهم لن يكسروا عظامنا عند أول فرصة.

الأذى والوحشة

كنا في الحرب التي شنتها إسرائيل علينا واختلفنا على نتائجها نستطيع أن ندعي أننا نؤذي خصمنا، ليس مثلما يؤذينا تماماً لكننا كنا نؤذيه. وهذا الأذى هو نصر لا سابقة له في تاريخ هذا الصراع مع العدو الإسرائيلي. كنا نقصف حيفا انتقاماً لضاحية بيروت الجنوبية ونهدد بقصف تل أبيب إذا ما تعرضت بيروت للقصف. لقد حمانا خوف تل أبيب على نفسها من أن تدمر الطائرات عاصمتنا. بيروت هذه التي كانت عزيزة وغالية على قلوب الجميع في زمن الحرب، لم تعد كذلك. حيفا التي تضررت في الحرب تتعافى لكن بيروت التي سلمت من أذى القصف تتألم وتترنح تحت ضربات المقاومة وهي تنتظر الضربة القاضية. هكذا يفشل اللبنانيون كل مرة في استثمار دمائهم، دائماً يموتون بلا معنى، ودائماً يكتشفون متأخرين أن ثمة حرب آخرين كانت تدور على أرضهم، لكنهم في كل مرة لا يسألون أنفسهم: لماذا تقاتلوا وتذابحوا من أجل الآخرين؟ حيفا التي أصبنا قلبها في الحرب تنظر اليوم إلى المستقبل بثقة لا بأس بمقدارها. لكن بيروت التي حيدت في تلك الحرب تنظر إلى المستقبل الداهم وتعرف ألا سبيل لإصلاح ما دمرته الحرب التي شنها عليها من كان يقاتل لحمايتها. السؤال ساذج لأن السذاجة أول منتجات المرارة. نحن قوم تدمغ المرارات جلودنا وحلوقنا وسجائرنا التي بتنا ندخنها بشراهة وحرارة الضمة التي تسبق الوداع.

وطن الوداع

في هذه الحرب التي ابتكرنا لها شعارات لا يحسدنا عليها أحد، ننقطع عن طعامنا وعاداتنا ونومنا وكل ما كنا نمارسه عفواً وبحكم العادة. تغيرت أحوالنا وصار الواحد منا إذا ما أراد أن يشتري أود طبخة لأولاده يدور على الدكاكين والمحلات التي يستطيع الوصول إليها، فيشتري ما تيسر في كل دكان. وغالباً ما كنا نقرر أن نطبخ الفاصولياء فلا نجد لها في السوق أثراً، فنشتري العدس لنطبخه بعد حين، لأنه متوافر ونخشى حين نقرر طبخه ألا نجد منه في السوق. كان الحصار الذي فرضناه على أنفسنا، يفرض علينا ما يجب أن نطبخه وما يجدر بنا أن نشربه، وما يتوجب علينا أن نخزنه في خزائن بيوتنا. لكن الحصار لا يمنع المقاتلين من التجول في سياراتهم الفخمة وهيئة السماحة على وجوههم، كما لو أنهم لا يواجهون أي مصاعب. الحصار انتهى نظرياً وقانونياً، وتحول عصياناً، ما يعني أننا دخلنا في حصار من طراز آخر، وينبغي أن نمرن أنفسنا على الخسران.

اليوم نحن نعيش في زمن الوداع. وداع المقاهي التي تقفل أبوابها، ونخاف أن نذهب إليها لأننا نخشى أن نكون آخر من يعانقها قبل أن تذهب في حال سبيلها، وداع الناس الذين كانوا يضجون في شوارع بيروت وعلى كورنيشها البحري وذهبوا إلى حيث لا نعرف لهم مكاناً. وداع اللحوم التي تعودنا أن نشتريها بثقة الأعمى من وثارة سريره البيتي، ووداع السجائر التي نمضي نصف أيامنا ونحن نبحث عن مكان نشتريها منه، ونصفها الآخر في تدخينها. وعلى النحو نفسه بات بعض السياسيين الذين كنا نظنهم قد تقاعدوا ضيوفاً دائمين على الشاشات، لست أهتم لما يقوله نجاح واكيم، الذي يكثر من الظهور على الشاشات هذه الأيام. لأنني ما إن أشاهده على الشاشة حتى أدرك أن الوجوه التي تعودنا على مشاهدتها تتفاصح على الهواء قد غادرت البلد من دون أن يتسنى لنا توديعها وداعاً يليق بها. أن يستطيل الوداع ليصبح نمط حياة أمر يجدر أن نسجله في خانة إنجازاتنا اللبنانية. نحن نودع كل شيء، لم يبق على هذه الأرض المنتصرة والصامدة إلا الذين يستعدون للرحيل، بلد تحول برمته مطاراً ونحن نعيش في سوقه الحرة التي تبيع ما لا لزوم له دائماً، وما لا يعيننا على المكوث في المكان. بلد يشبه السوق الحرة لأننا لا نستطيع أن نشتري منه غير الهدايا التي تحثنا على المغادرة للقاء أحبائنا الذين اشترينا الهدايا لأجل إسعادهم، من يهدينا لحماً وفحماً للشواء؟ من ذا الذي يستطيع أن يعيد هذه الأرض وطناً ومستقراً؟

* كاتب لبناني

back to top