مطلوب رائد فضاء

نشر في 26-11-2008
آخر تحديث 26-11-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي («مطلوب طيارين- للعمل بصيدلية في مدينة نصرـ خبرة أربع سنوات، و «الفسبا» متوفرة)... عندما قرأت هذا الإعلان في بعض صحف القاهرة، رحت أفرك عيني، يا ترى ماذا ستفعل صيدلية في مدينة نصر بالطيارين؟ وما هي هذه «الفسبا» التي يقول الإعلان أنها متوافرة؟ ثم قرأت أن مطعما آخر في المهندسين يطلب طيارين أيضا، ولم أفهم الحكاية. لم أر أي قاسم مشترك بين المطعم والصيدلية والطيران. والحقيقة أنني كنت أستحي من أن أستفسر عن هذا اللغز وأنا في القاهرة، لأنني كمعظم الصعايدة لا نريد أن نؤكد للقاهريين الصورة النمطية الجاهزة عن الصعيدي الذي يجهل «حداقة» الشمال.

ولأن إخواني هم الذين سيسترون على جهلي ويقبلونني على علاتي، رفعت السماعة وسألت أحدهم قائلا له: «ما تآخذنيش في جهلي، بس اليوم قرأت إعلانين في صحيفة أذهلاني، إعلان عن وظيفة طيار للعمل في صيدلية، وآخر عن وظيفة طيار للعمل بمطعم، هو إيه علاقة الطيران بالمطاعم والصيدليات؟» انفجر في الضحك، ولما التقط أنفاسه، هذا بعد أن نادى على جميع إخواني للاستماع إلى هذه «الخربطة»، فسّر لي قائلا «الطيار عندنا هو الرجل الذي يركب الموتوسيكل ويجري به في زحام القاهرة، مرة يسير على الرصيف ومرة بين السيارات لتوصيل البتزا الساخنة إلى المنازل. وبعضهم يوصل طلبات الأدوية من وإلى الصيدليات، هذا هو الطيار في التعريف الجديد»... أدركت وقتئذ أنني قد غبت عن مصر كثيرا، وفي غيبتي تسلقت جدران البلد لغة جديدة كنبات طفيلي سريع النمو، هي لغة «الروشنة والطحن» والناس المشفرة. لكن فكرة الطيار هذه لفتت نظري إلى عالم رواد الفضاء.

وهنا لا أعني برواد الفضاء من هم مثل الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزير أول رائد فضاء عربي، ربما هذا ما يتبادر إلى ذهن القارئ، فرائد الفضاء الذي عنيته ليس ذاك الذي يذهب إلى القمر في مركبة فضائية، أو حتى عن طريق المسبار الهندي. رائد الفضاء الذي أقصده هنا، مثله مثل الطيار في إعلاني الصحيفتين المصريتين اتخذ منحى آخر، فاليوم هناك مجموعة ممن يرتادون المحطات الفضائية بشكل يومي، وهم كعمال توصيل البيتزا يركبون «موتسيكل» ليتنقلوا بسرعة وسط الزحام من مكتب فضائية في ماسبيرو إلى أخرى في الدقي أو في مدينة الإنتاج الإعلامي بالسادس من أكتوبر، إلخ.. الخ.

ظاهرة رواد الفضاء تسهم فيما أسميته سابقا بالحضارة الشفوية، أناس يتحدثون بما يعرفون ولا يعرفون على الهواء مباشرة، هذه النوعية من البشر لاينفع معها قانون «البث» الإعلامي الذي تقدم به وزراء الإعلام العرب أخيرا، المطلوب هنا هو الـ«بس» الإعلامي، أي أن يقول أحدا لهم «بس كفاية كده».

في الغرب مازال الكثيرون يستحون من أن يقولوا أنهم تلقوا الأخبار عن طريق التلفزيون، لأن ذلك يضع المتحدث في عداد الشفويين الذين لا طاقة لهم بالبحث عن المعلومة. الأخبار في الغرب تؤخذ عادة من الصحف، وحتى الصحف فلها تراتبية معينة، والثقافة من الكتب والسينما والمسرح. أما عندنا فأصبحنا اليوم نتلقى كل شيء عن طريق الشاشات، لم نعد شفويين فقط بل أصبحنا قوما فضائيين، وفي ذلك معنى الفضائيات والكلام الفاضي أيضا.

لدينا اليوم أكثر من أربعمئة قناة تلفزيونية عربية، هذا الثابت منها، أما ما يظهر ويختفي في إطار البث التجريبي فيصل إلى أكثر من مئة. لكل هذه القنوات مطلوب رواد فضاء، يتحدثون في الدين وفي السياسة وفي الطبيخ وفي الاقتصاد وفي كرة القدم وكرة السلة وكرة المضرب وفي الكرة الأرضية أيضا. وجوه لا تعرف من اختارها لملء هذا الفراغ العشوائي في حياتنا.

القنوات اليوم تتخذ أسماء غريبة عجيبة، بعضها عائلي وبعضها رمزي، مثل الساعة والولاعة، وخليفة، الشرقية والغربية، والحرة «اللي مش حرة قوي»، والمستقلة «اللي مش مستقلة قوي برضه»، إلخ..الخ. هناك قناة تديرها وتعمل فيها عائلة واحدة، منها المذيعون والمعلقون لمدة أربع وعشرين ساعة، يظهر فيها الرجل وأولاده فقط، يقدمون النشرات ويجيبون عن أسئلة المشاهدين، ويقدمون الفتاوى الدينية والسياسية، ولا ينقصهم إلا أن يقوموا بتمثيل فيديو كليب.

في هذا الجو الفضائي الذي يتيح لكل واحد وأخيه وابن عمه أن تكون لهم قناة، لا تعجب إذا قرأت بعد قليل إعلانا في الصحيفة يقول «مطلوب رائد فضاء»، فهذا لا يعني أن الإعلان يطلب رائد فضاء يعمل في وكالة الفضاء الأميركية «ناسا» أو الفضائية الروسية، إنما قد يكون إعلانا لرائد فضاء في قناة «الحرة» أو «روسيا اليوم» أو قناة «خليفة» أو قناة «الحلفاء» أو حتى قناة «المحور»... أو قناة السويس. و«الفسبا متوافرة»!

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top