عمران التدين والمواطنة 3- 3

نشر في 18-06-2008
آخر تحديث 18-06-2008 | 00:00
 د. مأمون فندي علاقة المصري بالحكومة هي علاقة غيبية كعلاقته بالأولياء والنذور، ليست علاقة حقوق وواجبات، وما أحاول رسمه هنا هو جغرافيا تلك العلاقة، فإذا ما كنت في الصعيد «الجواني» واتجهت شمالاً من سوهاج دخلت في محافظة أكبر، وهي محافظة أسيوط، الأكبر من حيث عدد السكان، ومستوى الدخل، واهتمام الحكومة المركزية.

في أسيوط، نرى ضريحا أكبر من ضريح القنائي والعارف، ضريحا يوازي أهمية أسيوط وهو ضريح «سيدي جلال»، وهو جلال الدين السيوطي، وأعياد ميلاد صاحب الضريح تزيد أهمية عن العيد الرسمي للإقليم، تُذبح فيه الذبائح وتُتلى فيه الأذكار، ويصدح فيه صوت المنشد الصوفي ابن أسيوط الشيخ ياسين التهامي.

في مولد «سيدي جلال» تحس أنك في عاصمة الصعيد الصوفية، ومتى ما مشيت في شوارع أسيوط أيضا أدركت أنك في عاصمة الصعيد الإدارية، أو ربما يخيل إليك ذلك. أهمية مقام «سيدي جلال» تأتي من أهمية أسيوط، والزحام حوله أكبر لأن عدد سكانها أكبر من عدد سكان أهالي قنا وسوهاج والأقصر، كذلك صندوق النذور أكبر والذبائح أكثر، وربما إنفاق وزارة الأوقاف ومحافظة أسيوط على الضريح أكبر... وبذلك يحدث التدرج التنازلي كلما اتجهت جنوباً، أو التصاعدي كلما اتجهت شمالاً، حتى تصل إلى القاهرة لتجد نفسك وجهاً لوجه أمام «قمة الهرم» الديني والدنيوي في الثلاثية المصرية؛ ضريح «سيدنا الحسين» على المستوى الإداري الصوفي من جانب، والحكومة ومجلس الشعب على المستوى الإداري الدنيوي، على الجانب الآخر.

ألم يلقِّب أهل مصر السيدة زينب برئيسة الديوان؟ يدعي المتصوفة المصريون بأن هناك حكومة باطنية لمصر يرأسها النبي محمد (ص)، وأن رئيس وزرائها الحسين بن علي، وأن رئيسة الديوان المقابل لديوان رئاسة الجمهورية Chief of Staff، هي السيدة زينب. هذه هي الحكومة الحقيقية التي تمنح المصريين الاستقرار، لذا نجد بعض الوزراء يزور مقام السيدة زينب ومقام الحسين حتى يهتدي إلى الخيارات الصائبة في السياسات العامة التي ينصحه بها درويش من الحضرة ربما يكون مرسلاً من الحكومة الباطنية!

النظام يتصاعد من الجنوب إلى الشمال في أضرحة أولياء الله في السياق الصوفي أو السياق المقدس، كذلك تتصاعد أهمية المحافظات كلما اتجهت شمالاً في السياق الإداري من الأقصر حتى مركز الحكم في القاهرة.

في القاهرة، صرة المجتمع الهيدروليكي «المجتمع النهري»، أو تلك المنطقة التي يبدأ النيل التفرع فيها ليمنحنا دلتا الشمال، تختلط صرة مصر الإدارية بصرتها الصوفية الدينية، لا فرق بين قبة مجلس الشعب وقبة الحسين. وفي القاهرة أيضاً هناك الأولياء الأقل مرتبة، هناك السيدة نفيسة والشافعي حتى تصل إلى الرفاعي وسيدي الإمبابي. أي يتوحد في القاهرة الخط الديني الصوفي في قمته المتمثلة في أضرحة آل البيت مع الخط السياسي المتمثل في الدولة المركزية‏.‏

ولكن تبقى العلاقة هي نفسها، علاقة زحام وموالد، علاقة أقرب إلى الشعوذة منها إلى الحكم، علاقة توسل وذبح للقرابين لا علاقة حقوق وواجبات. نذبح أمام ضريح الحسين ونتوسل في المقام، كما نقدم الهدايا لأعضاء مجلس الشعب كي يحصلوا لنا على توقيع الوزير! عضو مجلس الشعب واسطة الشعب عند الحكومة، كما الولي واسطة العبد عند الله.

أذكر أن والدي عندما نجحت في الثانوية العامة ذبح خروفاً لأحد الأولياء‏،‏ ولكنه ذبحه بعد النجاح وليس قبله‏،‏ وهي صيغة تبدو متبعة في رؤيته للنظام السياسي وموقعه منه‏،‏ أي أنه لا يرى نفسه صاحب حق في بناء عقد اجتماعي؛ بقدر ما هو متضرع فقد يستجاب طلبه أو لا يستجاب‏،‏ شأنه في ذلك شأن الباحث عن واسطة الأولياء‏!

الموضوع ليس دينياً، الموضوع برمته محاولة لتفسير ذهنية التوسل عند المصريين، بينما نرى ذهنية المواطنة والحقوق والواجبات في المجتمعات الأخرى.

الشيء نفسه ينطبق على سيولة المقدس حتى يصل إلى الصرة في القاهرة في حالة أولياء الشمال، مثل «سيدي أبو العباس» في الاسكندرية و«السيد البدوي» في طنطا!

مولد الولي... وإقامة الذبائح والولائم أشبه بمؤتمرات الحزب على المستوى الدنيوي، وكما في مؤتمرات الحزب ترى الشيء نفسه في الموالد من الرقص حتى سرقة «المحفظة» و«شق الجيوب».

في تشابك الديني بالدنيوي في الحالة المصرية يخلط الناس بين الولي وعضو مجلس الشعب، بين إرادة الحكومة وغيبية التوسل بالولي، يختلط عند المصريين اليوم وجودهم في مؤتمر الحزب بوجودهم في مولد الحسين، لا فرق بين رئيس الحزب ونقيب الولي القائم على صندوق النذور والعطايا.

فهل يمكن لمصر أن تفك هذا الارتباط بين الديني والدنيوي، بين الإدارة الصوفية الباطنية للبلد والإدارة السياسية؟! هل يمكن للمواطنة أن تحل محل الطواف حول مقام الولي، وهل لذهنية الحقوق والواجبات أن تكون بديلاً لثقافة التوسل؟! ربما يكون ذلك ممكناً، لكن تكلفة الحل كبيرة.

* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS

back to top