الوزارات المصرية
يصلح الخبير الأكاديمي لأن يكون جزءاً من الجهاز الحكومي في مستوياته المعنية بمهام رسم خطط صياغة وتنفيذ السياسات وتقييم فاعليتها إن توافرت به الشروط اللازمة لذلك، وهي باختصار الخبرة الإدارية والأمانة، أما السياسي فهو إنسان من نوع خاص يؤمن بأن مصير مجتمعه مرتبط بدوره، ويتمتع بمَلَكة التعبير عن رؤى وأحلام قطاعات واسعة من المواطنين بصورة مفهومة لهم.محزن أمر السياسة في مصر، فبجانب أزماتها كلها المرتبطة بهيمنة النخبة الحاكمة وحزبها وطغيان السلطة التنفيذية وضعف المعارضة، تعاني الحياة السياسية غياب فئة السياسيين المحترفين أنفسهم. ولذلك أسباب متعددة: 1 - إرث ثورة يوليو 1952 بتهميشها لنخبة الحقبة الليبرالية المدنية وعسكرتها لمداخل المنصب السياسي. 2 - الضعف والجمود الواضح لمؤسسات التنشئة السياسية الحكومية وغير الحكومية، خصوصاً الأحزاب صاحبة الدور المركزي في إعداد أجيال جديدة من السياسيين. 3 - أما الأهم من هذا وذاك، فهو السيطرة المباشرة والمتنامية منذ الستينيات للتكنوقراط على الحياة السياسية.والمحصلة النهائية هي ظاهرة «حكومات الدكاترة» التي يحل بها أستاذ الجامعة أو الخبير الأكاديمي محل السياسي في تولي العديد من الحقائب الوزارية.من النادر أن تجد في حكومة أي دولة غربية أو شرقية تعتمد النظام الديمقراطي مثل هذا العدد الكبير من حملة الشهادات الأكاديمية العليا كما في الحكومة المصرية. الأرجح أن ترى عدداً منهم في المستويات التالية للمنصب الوزاري بصياغات مختلفة تبدأ بلجان الخبراء الدائمة والمؤقتة وتنتهي بعلاقات العمل الاستشارية، تقتصر عضوية الحكومات أو الائتلافات الحاكمة في دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والهند والبرازيل بالأساس على السياسيين المتمرسين، ولا تستثنى من ذلك الوزارات السيادية مثل الدفاع والداخلية التي يعهد بها إلى مدنيين قادرين على مخاطبة الرأي العام ومسؤولين أمامه. أما في مصر فيرتب لجوء النخبة الحاكمة بانتظام للتكنوقراط كبدلاء للسياسيين الغائبين عن الساحة عدداً لا نهائياً من المشكلات، فالخبير الأكاديمي عادةً ما يفتقد الحس والخيال السياسي وتضعف قدرته على الاتصال بالواقع الفعلي الذي تمكن معرفته من صياغة السياسات، والأرجح أن يظل الرجل «فأغلب الخبراء في بلدنا رجال!» أسيراً لنماذج نظرية تصلح مناقشتها في القاعات المغلقة، ولا يمكن نقلها بحكم اللغة المتخصصة (خطط زمنية وجداول بيانية وأرقام) إلى الرأي العام.ثم تزداد الصورة قتامةً حينما نرى أن الوزير الأكاديمي لا يأخذ معايير الكفاءة التكنوقراطية والعلمية مأخذ الجد، وأعني هنا بالأساس الأمانة في عرض الإنجازات والإخفاقات وتحمل مسؤوليات الأخيرة والاستقالة من المنصب حين ثبوت الفشل.يصلح الخبير الأكاديمي لأن يكون جزءاً من الجهاز الحكومي في مستوياته المعنية بمهام رسم خطط صياغة وتنفيذ السياسات وتقييم فاعليتها إن توافرت به الشروط اللازمة لذلك، وهي باختصار الخبرة الإدارية والأمانة، أما السياسي فهو إنسان من نوع خاص يؤمن بأن مصير مجتمعه مرتبط بدوره، ويتمتع بمَلَكة التعبير عن رؤى وأحلام قطاعات واسعة من المواطنين بصورة مفهومة لهم، وتصقل قدراته الممارسة الفعلية للسياسة بكل ما يرتبط بها من صعوبات وأزمات.لا يقتصر اختفاء فئة السياسيين المحترفين على الدوائر الحكومية فقط، بل يتعداها إلى المعارضة. أغلب رؤساء الأحزاب المصرية هم من حملة الشهادات الأكاديمية العليا، ويندر أن تجد بين قياداتها التنظيمية سياسيين أو حركيين، بل إن حركة كفاية التي ضمت حين تأسيسها خليطاً من الحركيين والأكاديميين وأوكلت للمجموعة الأولى المسؤولية التنفيذية اعتراها المرض العضال نفسه، فعادت وهمّشت جزئياً الحركيين وعلى رأسهم منسقها العام السابق، أما قيادات «الإخوان» فهم وإن تميزوا بخلفية حركية حقيقية، إلا أن وعي السياسي ومَلَكته غائبة عن معظمهم... وفي ذلك أحد أسباب ارتباك الجماعة المستمر.* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي- واشنطن